المقاربة الأميركية الجديدة للمنطقة العربية تنطلق من مسلمة باتت المؤسسات الأميركية مجمعة عليها بضرورة مواجهة إيران ومعاملة امتداداتها العسكرية باعتبارها سلوكا إرهابيا وجب التعامل معه.
تكشف الساعات الأخيرة عما يخفيه الصراع في سوريا من مفاجآت لا تنتهي تزيلُ عن يوميات الأزمة قواعد وشروطا وثوابت لطالما أضحت من أبجديات التحليل السياسي الخاص بالمسألة السورية. ويكشف اشتعال الجبهات السورية مدى ما تختزنه فصائل المعارضة من قوة يجري تفعيلها أو تحييدها وفق سياسات مرسومة بعيدة عما هو عبث وارتجال وانفعال.
وتروم التفاصيل العسكرية، سواء في دمشق ومحيطها أو حماة ومحيطها وربما جبهات أخرى، إسقاط واقع جيواستراتيجي أرساه التدخل الروسي في هذا البلد منذ سبتمبر 2015. ولا يخفى على المراقب أن حراك الفصائل المفاجئ في دمشق خصوصا، يعبّر عن أجندة تتجاوز قدرات هذه الفصائل التقريرية، ويعكس تبدلا جذريا في المزاج الدولي العام حيال ستاتيكو المنطقة برمتها، بما في ذلك ما فرضه الأمر الواقع الروسي منذ حوالي عام ونصف العام من قواعد وأصول لمقاربة الأزمة السورية.
ويمكن الجزم أن موسكو لم تعد تمتلك حصرية الوكالة الدولية للإمساك بالملف السوري. بدا أن زمن المواكبة الأميركية الدولية الحيادية للسلوك الروسي في سوريا (في نسخة الثنائي لافروف-كيري) أصبح ينتمي إلى زمن ولى مع انتهاء ولاية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. فإذا ما كانت همّة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوريا تناسلت من ثمار اجتماع جمعه بنظيره الأميركي على هامش قمة الأمم المتحدة في نيويورك قبل ساعات من دفعه بسلاح الجو الروسي إلى سوريا، فإن الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، المنتقد لإرث سلفه في كافة الميادين، ذاهب للانقلاب على “عقيدة” أوباما في سوريا لصالح انخراط عسكري مباشر للولايات المتحدة، تجعل من واشنطن منافسا للانخراط الروسي في هذا البلد بعد أن كانت متواطئة معه.
تتعايش القوات العسكرية الروسية والأميركية بخبث في النواحي المحيطة بمدينة منبج شمال البلاد، فيما ذهبت موسكو إلى عقد اتفاق مع قوات حماية الشعب الكردية لإقامة قاعدة عسكرية في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في عفرين في سعي لمناكفة القواعد الأميركية التي تقيمها واشنطن في هذه المناطق وبالتحالف مع نفس الشريك الكردي. وفيما كانت روسيا تتمتع بحصرية التواجد العسكري الدولي في سوريا، فإن التحاق واشنطن بالعمليات العسكرية البرية في سوريا على منوال انخراطها في العراق، والكشف عن تواجد أمني وعسكري متفاوت الحجم لدول غربية أخرى (خصوصا بريطانيا وفرنسا)، يحوّل الساحة السورية إلى ميدان روسي أميركي غربي مشترك قلما وجد مثيل له في تاريخ التنافس الروسي الأطلسي في العالم.
ولا شك أن الكرملين يشعر بسخونة الموقف الروسي الراهن في سوريا وصعوبة المنافسة المقبلة للاستئثار بمآلات التسوية المقبلة. ولا شك أيضا أن موسكو لم تفاجأ من هذا التطور، وسعت دائما إلى تقويضه، من خلال المسارعة إلى فتح عملية أستانا ومحاصرة عملية جنيف، بغية منع تسرّب أي مغامرين جدد داخل الملعب السوري. لكن التطورات الميدانية المتسارعة الأخيرة تفصح عن أن أمر التسويات بات قريبا عاجلا على النحو الذي يفسّر تضارب الأجندات الدولية والإقليمية، كما يفسر تعدد الرسائل التي أطلقتها العواصم المعنية لإرباك أي طاولات تُعِدُّ لتسويات وخطط وخرائط مرتبطة بالشأن السوري.
وبالإمكان إدراج الغارات الإسرائيلية الأخيرة ضمن لائحة المتغيرات والرسائل المستجدة في الفضاء السوري. وعلى الرغم من أن هذه الغارات لا تختلف في أسلوبها وأهدافها عما درجت إسرائيل على القيام به، إلا أن الجديد في الأمر هو إعلان إسرائيل رسميا قيام طائراتها بهذه الغارات، ملحقة هجومها الجوي بأول تشغيل لمنظومتها الصاروخية المضادة للصواريخ “سهم”، بما يدشّن إعلانا إسرائيليا بأنها باتت جزءا من الدول المنخرطة جهارا في الصراع السوري، وأنها معنية بالمداولات الجارية دوليا لاجتراح تسويات معينة لهذا البلد.
وبالإمكان أيضا إدراج الردّ الصاروخي الذي قامت به دمشق ضد هذه الطائرات المغيرة بصفته تغيرا طرأ على قواعد لطالما اعتبرت من ثوابت تعامل النظام السوري مع العمليات العسكرية الإسرائيلية داخل سوريا. وسواء كان وراء تحرّك صواريخ أرض-جو السورية قرار إيراني أو روسي أو الاثنان معا، فإن الأمر يعبّر عن انتهاك للتفاهمات الروسية الإسرائيلية التي تم التوصل إليها قبل بدء الطائرات الروسية ورشتها في سوريا.
وكانت قواعد اللعبة في هذا المجال تعتمد، على ما يبدو، على وعود قطعها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو بإعطاء إسرائيل ضوءا أخضر دائما للتدخل لضرب أي أهداف تعتبرها تل أبيب خطرا على أمن إسرائيل في الداخل السوري. وبينما كانت الغارات الإسرائيلية غير المعلنة قبل ذلك تقابل بضجيج صوتي من دمشق وصمت من موسكو، فإن الغارات الأخيرة المعلنة قوبلت بضجيج من نار من قبل النظام السوري وباستدعاء موسكو للسفير الإسرائيلي في روسيا.
وبغض النظر عن الروايات التي رافقت مسألة استدعاء سفير تل أبيب في موسكو من قبل وزارة الخارجية الروسية بين كونها احتجاجية أو تصويبا لأصول التنسيق المتفق عليه بين البلدين، إلا أن الحدث يمثّل سقوطا لمسلّمات سابقة ستتداعى على شكل العلاقة المقبلة بين موسكو وتل أبيب، كما يشي بأن اجتماع نتنياهو بترامب (15 فبراير الماضي) أثمر تفاهمات متقدمة قد هيمنت على ثمار اجتماع نتنياهو وبوتين (9 مارس الجاري).
ولا شك أن فشل اجتماعات أستانا 3 ورفض الفصائل المعارضة المسلحة الالتحاق باجتماعات العاصمة الكازاخستانية، لا يعبّر فقط عن امتعاض هذه الفصائل من عدم التزام روسيا ونظام دمشق باتفاق وقف إطلاق النار، بل يكشف تصدّعا أصاب كل العملية التي قامت على أساس الاتفاق الروسي التركي عقب سقوط شرقي حلب. وبالتالي فإن أحد وجوه اشتعال الجبهات المفاجئ في دمشق وحماة ومناطق أخرى ليس بعيدا عن ارتخاء أصاب الوفاق بين موسكو وأنقرة، وقد يعبّر أيضا عن وهن النتائج التي توصّلت إليها القمة التي جمعت في موسكو مؤخرا (10 مارس الجاري) الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنظيره الروسي. ولا يبتعد خبر إرسال موسكو لوحدات عسكرية للتموضع في عفرين الكردية في منطقة محاذية للحدود مع تركيا عن سياق تراجع مستوى التعاون بين تركيا وروسيا، لا بل يعد الأمر رسالة روسية تحذيرية موجعة لا تختلف عن تلك التي توجهها واشنطن في شأن تمسكها بالخيار الكردي في معركتها ضد تنظيم داعش في الرقة.
على أن المقاربة الأميركية الجديدة للمنطقة العربية بدأت تلقي بظلال تتلاعب بخطوط التماس العسكرية في سوريا. تنطلق واشنطن من مسلّمة باتت المؤسسات الأميركية العسكرية والأمنية والدبلوماسية مجمعة عليها بضرورة مواجهة إيران ومعاملة امتداداتها العسكرية خارج إيران باعتبارها سلوكا إرهابيا وجب التعامل معه على منوال ما هو معمول به لمواجهة تنظيم داعش، لا بل تذهب العقيدة الأميركية الجديدة على الاعتراف بوجود رابط موضوعي بين تنامي النفوذ الإيراني الشيعي في الخارج وتنامي الإرهاب السني الذي ينهل قوته من تضخم مظلومية سنية سببها سياسات إيران في المنطقة. وقد لا يبتعد الهجوم على دمشق عن خرائط الضغوط التي تمارس على نظام دمشق عشية انعقاد مفاوضات جنيف 5، لكنه يمثل أيضا إشارات ضاغطة على إيران نفسها التي تستثمر المال والرجال وتستورد الميليشيات الشيعية التابعة لها في العراق ولبنان وأفغانستان وغيرها من أجل الحفاظ على النظام ومركزه في دمشق.
وتمثل المقاربة الأميركية في المنطقة عودة لتمتين التحالف التقليدي مع دول الخليج والذي لا بد أن زيارة وليّ وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن قد أرست قواعدها الجديدة. فيما تمثّل زيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي للعاصمة الأميركية بداية تحرك أميركي جديد في هذا البلد على خطى إخراج العراق من تحت سقف النفوذ الإيراني. ومن داخل هذه الاصطفافات التي تظهر معالمها وتطل إرهاصاتها، ينشط الفاعلون في الشأن السوري لتغيير قواعد اللعبة التي تشي بانسداد كامل لأي حل سوري محتمل. بيد أن الهمّة العسكرية الحالية لن تذهب إلى إحداث انقلاب عسكري جذري داخلي، ليس فقط لأن القوى العسكرية المعارضة لا تملك تحقيق ذلك أمام آلة الحرب السورية والإيرانية والروسية معا، بل لأن لهذه التطورات العسكرية هدف تحريكي يربك جماد الجبهات ويعيد تواصلها وربط مصائرها ويوقف حالة الاستفراد التي مورست ضدها منذ سقوط مدينة حلب. كما أن لهذه التطورات العسكرية مغاز سياسية لا بد أن العواصم المعنية بالشأن السوري ستتأملها بعناية قبل البناء عليها واستيعاب معانيها.