اختار خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز أن تكون ماليزيا محطته الأولى في جولته الآسيوية الحالية التي ستقوده أيضًا إلى اندونيسيا وبروناي والصين واليابان والمالديف. ولئن كان ملوك السعودية لم يزوروا من قبل سلطنة بروناي وجزر المالديف، وبالتالي فإن زيارة الملك سلمان لهما غير مسبوقة (مع ملاحظة أن العاهل السعودي زار المالديف في 2014 حينما كان وليًا للعهد) فإن ماليزيا حظيت من قبل بزيارة الملك فيصل بن عبدالعزيز في 1970 كما حظيت بزيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز في 2006،
الأمر الذي يبرهن على مدى اهتمام قادة المملكة بتنمية وتطوير علاقات بلادهم الثنائية مع هذا القطر الصاعد، خصوصًا وأن هذه العلاقات، منذ تأسيسها في أوائل الستينات، تميزت بحالة من الانسجام والتوافق السياسي الذي انعكس ايجابًا على تعاونهما في مختلف الحقول. ناهيك عن أن انسجامهما شهد طفرة في الآونة الأخيرة في اعقاب انضمام ماليزيا إلى الجهود التي تقودها الرياض لإعادة الشرعية إلى اليمن، وانضمامها ايضا إلى التحالف الإسلامي العسكري ضد الإرهاب، ومشاركتها في مناورات رعد الشمال، وتنديدها بالسياسات الإيرانية في المنطقة.
والحقيقة أن هذه العلاقات، خلال الخمسة عقود ونيف الماضية من عمرها لم تشهد أي خلافات أو أزمات اطلاقًا، بل حرصت كوالالمبور من جانبها على تفادي أي حدث قد يخفض درجة حرارة روابطها مع الرياض. ولعل احد الأدلة في هذا السياق أنها فصلت رئيس تحرير صحيفة «نيو ستريتس تايمز» الماليزية واسعة الانتشار في 2003 لمجرد كتابته مقالاً انتقد فيه السلطات السعودية لأنها حسب زعمه لم تلتزم بالحصة السنوية المقررة لعدد الحجاج الماليزيين.
وهكذا، فلئن كان هدف زيارتي العاهل السعودي للقطبين الآسيويين الصيني والياباني مثلاً هو تأسيس نوع من أنواع الشراكة الاستراتيجية بعيدة المدى في مسائل النفط والغاز والتصنيع واحاطته بسياج من التفاهم السياسي في ظل الحرائق التي تشهدها المنطقة بسبب السياسات الإيرانية الهوجاء وممارسات أذرعها الشيطانية، فإن زيارة جلالته إلى ماليزيا تهدف إلى الإضافة إلى ما هو قائم فعلاً من تعاون وتفاهم وانسجام، بمعنى تعزيزه وتوسيع آفاقه وتنويع معالمه مع هذا القطر الآسيوي المهم الذي يعتبر من مؤسسي منظمة التعاون الإسلامي وإحدى دعاماتها الرئيسية وأول من قاد أمانتها العامة في شخص رئيس وزرائه الأسبق تنكو عبدالرحمن، بل الذي كان في مقدمة من رحبوا بفكرة التضامن الإسلامي يوم أن أطلقها الفيصل في أواسط ستينات القرن العشرين.
والمعروف أن السعودية بدأت منذ عدة سنوات تولي اهتمامًا خاصًا بالتعاون مع ماليزيا في عدد من المجالات الحيوية، لأكثر من سبب. من هذه الأسباب أن ماليزيا تمثل نموذجًا إسلاميًا ناجحًا في التنمية والنهضة، إن لم تكن النموذج الإسلامي الناجح الوحيد، وأن مؤسساتها وشركاتها الاقتصادية أثبتت بما تراكم لديها من تجارب أنها منافس قوي لمثيلاتها في الغرب لجهة الإنجاز المحكم لما يوكل إليها من مشاريع. أضف إلى ذلك أن هذه الشركات، بسبب انتمائها إلى دولة إسلامية، تملك ميزة العمل في نطاق المناطق المقدسة التي يحظر على غير المسلمين دخولها.
وتسعى السعودية اليوم، وهي تمضي قدما في خطة 2030 الواعدة، إلى توسعة حجم استفادتها من الخبرات الماليزية، ولاسيما في مجال التنمية البشرية وما يرتبط بها من تعليم وتدريب مهني وفني لقواها العاملة الوطنية، خصوصا وأن ماليزيا حققت في هذا المجال نجاحات مشهودة كانت من ضمن عوامل تحولها إلى نمر آسيوي. وبطبيعة الحال هناك مجالات أخرى تتطلع المملكة إلى الإستفادة منها مثل تقنية المعلومات والرعاية الصحية والإنشاءات الحديثة. ويأتي هذا في أعقاب نجاح تعاون الجانبين في السنوات القليلة الماضية في عدد من الاستثمارات والمشروعات (مثل مشروعي بناء جامعة الفيصلية وإنشاء مدينة المال والأعمال في الرياض، ومشروع الشعيبة الضخم الخاص لتوليد الطاقة والمياه، ومشروع تحديث وتطوير أنظمة وإشارات المرور السعودية ووسائل مراقبتها).
أما ماليزيا فتسعى من جانبها إلى استقطاب المزيد من الاستثمارات السعودية، معتمدة في ذلك على ما تتمتع به من استقرار سياسي وبنية تحتية عصرية وقوانين استثمارية منفتحة، فضلاً عن وجود العديد من الفرص المربحة فيها وامتلاكها لأدوات استثمارية تلائم المستثمرين السعوديين المحافظين مثل الصناديق ومحافظ السندات والأسهم المراعية لاشتراطات الشريعة الإسلامية.
ومما يذكر في هذا السياق أن جدة استضافت ورشة عمل كبرى في 2006 تحت عنوان «مجالات وفرص العمل والاستثمار بين ماليزيا والمملكة»، شارك فيها أكثر من مائة من رجال الأعمال السعوديين ونظرائهم الماليزيين تتقدمهم وزيرة التجارة والصناعة السابقة رفيدة عزيز. في هذه الورشة تطرقت الوزيرة الماليزية إلى اهتمام بلادها بجذب رؤوس الأموال السعودية للاستثمار تحديدا في الصناعات الغذائية، ولاسيما الأطعمة الحلال التي تحاول ماليزيا أن تكون مركزًا إقليميًا رئيسيًا لإنتاجها وتسويقها بالتعاون مع استراليا.
كما يسعى الماليزيون أيضا إلى تعزيز روابطهم السياحية مع السعودية، خصوصًا وأن قطاع السياحة الماليزي بات يمثل مصدر جذب للأفراد والأسر السعودية، بدليل وصول عدد السياح السعوديين في 2012 مثلاً إلى أكثر من 120 ألفًا، أي بنسبة 50% من إجمالي السياح العرب في ذلك العام. إلى ذلك تحاول ماليزيا جذب المزيد من الطلبة السعوديين إلى جامعاتها وكلياتها التقنية التي تعتمد الإنجليزية لغة للتدريس ولا تقل مستوى عن مثيلاتها في الغرب، مستغلة في ذلك المخاوف التي نشأت عند بعضهم بعد أحداث 11 سبتمبر من الالتحاق بالجامعات الغربية. ولهذا أبرمت الجامعات الماليزية جملة من اتفاقيات التعاون وتبادل الخبرات مع كبريات الجامعات السعودية