في 5 مارس 2008 فقدت الكويت وأقطار الخليج رمزًا من رموزها الفكرية، وفيلسوفا من فلاسفتها المحدثين، وصوتًا صداحًا بالحق والعدالة والانسانية، ومقاومًا جسورًا ضد الجهل والخرافة والتطرف والاستبداد.
بهذه الصفات مجتمعة بنى الرجل لنفسه مكانة مرموقة في أوساط النخبة والعوام، ممن استهواهم حسن منطقه وسحر بيانه وجرأة مواقفه ونبل أخلاقه وتواضعه الاجتماعي، بدليل الحشد الكبير الذي شارك في تشييعه إلى مقبرة الصليبيخات. لكن كان هناك في المقابل من أضمروا له العداء انطلاقًا من بغضهم لتوجهاته العلمانية المضادة لتوجهاتهم الدينية المتشددة.
وهكذا كان ذلك التاريخ يومًا حزينًا لمحبي ومريدي المفكر والأكاديمي والنائب والوزير الكويتي الدكتور «أحمد عبدالله الربعي العنزي»، وكان في الوقت نفسه يومًا سعيدًا لأعدائه وخصومه بدليل ما تداولوه بين بعضهم من رسائل حملت قدرًا معيبًا من الشماتة.
ولد الربعي في منطقة المرقاب بالكويت في ديسمبر 1949 لأسرة مترابطة متدينة تعود جذورها إلى مدينة بريدة السعودية، وترعرع في بيئة محصورة بين مياه الخليج وسور الكويت. تقول سيرته الدراسية إنه التحق ابتداءً بالمعهد الديني الذي كانت به 4 أقسام، كل قسم يدرس مذهبًا من المذاهب الإسلامية، فاختار دراسة المذهب الحنبلي. هذا المعهد لعب دورًا كبيرًا في فصاحته وتمكنه من العربية، كونه تلقى علوم اللغة على أيدي مدرسين أزهريين متخصصين، بينما دراسته للمذهب الحنبلي ساهمت مبكرًا في إلمامه بمنهج الحنابلة وطريقة تفكيرهم.
بعد المعهد الديني، أكمل دراسته المتوسطة في مدرستي المرقاب وصلاح الدين على التوالي. وفي الأخيرة تعرف على الفكر القومي، وتحديدًا حينما تأثر بقصيدة كانت تحض على الدفاع عن مصر بالمال والدم زمن العدوان الثلاثي.
وفي ثانوية الشويخ التي تخرج منها في 1967، ترسخت وتعمقت أفكار حركة القوميين العرب في وجدانه فغدا واحدًا من المدافعين عن أطروحاتها وأجندتها دون أن يكترث بالشرطة التي كانت متواجدة في المدرسة باستمرار، طبقًا لما كتبه عنه صديقه الإعلامي يوسف الجاسم في كتابه «وداعًا يا أحمد»، الصادر في 2008.
في 1967 التحق بجامعة الكويت لدراسة الفلسفة بكلية لم يكن بها آنذاك سوى طالبين غيره (محمد الحداد ودعيج الريش)، لكن أساتذتها كانوا من فلاسفة العرب الكبار كالدكاترة زكي نجيب محمود، وفؤاد زكريا وعبدالرحمن بدوي، لذا فإنه كان محظوظًا لسببين: تتلمذه على يد هؤلاء الأساتذة والغرف من علمهم الغزيز مما سهل عليه فيما بعد مواصلة دراسته العليا في أعرق الجامعات الغربية، وسهولة تواصله معهم إلى حد الذهاب إليهم في بيوتهم ومكاتبهم الخاصة.
وأثناء مرحلة دراسته الجامعية لم ينقطع عن الانغماس في الفكر القومي والترويج له، بل تجاوز ذلك إلى المساهمة في 1968 مع 21 كويتيًا من أشباهه المؤدلجين في تفجير 3 قنابل أمام مجلس الأمة ومبنى وزارة الداخلية ومنزل وزيرها، كنوع من الاحتجاج ضد زيارة شاه إيران للكويت في تلك السنة.
وعلى حين تمكن الربعي وأحد زملائه من مغادرة الكويت قبل اعتقالهما، تم القبض على الباقين وتمت محاكمتهم في نوفمبر 1969 قبل أن يفرج عنهم جميعًا بعفو أميري، مع ملاحظة أنه نفي بعد سنوات طويلة في حديثه لصديقه يوسف الجاسم أثناء تواجده في الكويت وقت حدوث العملية، قائلاً (بتصرف): «كنا نتحلى في هذا الوقت بما يمكن أن أسميه الترف السياسي والمراهقة السياسية.. كان نزقًا سياسيًا مستعجلاً، يريد أن ينهي كل شيء بغض النظر عن الاعتبارات الاجتماعية والتاريخية وظروف الآخرين.
ويومها واجهنا قضية حل البرلمان بشيء من الرد العنيف، وشكلنا مجموعة سياسية تنظيمية، انشقت عن القوميين العرب، وبدأنا نشاطًا ذا طابع عنيف، فصارت أحداث عام 1967، ولم أكن موجودًا في تلك الفترة في الكويت».
أرخت هذه الواقعة لبداية اشتغاله بالعمل السياسي، فنراه، وهو بالكاد ينهي العقد الثاني من عمره، يترك دراسته الجامعية للقتال في صفوف التنظيمات الفلسطينية المسلحة في غور الأردن ومنطقة العرقوب بجنوب لبنان، ومن ثم في صفوف القوميين واليساريين والماويين التابعين لـ «الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي»، وهي جماعة انتهجت خيار حرب العصابات لتحرير إقليم ظفار العماني، والانطلاق منه نحو اسقاط كافة الأنظمة الخليجية بدعوى أنها «عميلة للامبريالية»، لكن الله خيب أملها وقبرها في مهدها وحمى الخليج من شرورها. وهذه النتيجة صارت تسعده حينما عاد إلى رشده وتخلى عن أفكاره الراديكالية، فكان يحمد ربه أن مساعي تلك الجبهة لم يكتب لها النجاح، وإلا فإن أوضاع الخليج ما كانت لتختلف عن أوضاع اليمن الجنوبي السابق. يقول الكاتب حمزة عليان في القبس(12/2/2008): «إن الربعي كان يشعر أحيانًا انه انزلق في هاوية سحيقة من العمل السياسي على حساب (….) حلمه بأن يكون معلمًا في المرحلة الابتدائية، وأن يحب الأطفال ويسعد بالتعامل معهم، ويتلذذ بشقاوتهم وبفوضاهم الجميلة».
تقول المصادر التي اطلعت عليها مثل مقال محمد القديري في جريدة السياسة (10/3/2008)، والروايات التي سمعتها من بعض زملاء المرحلة الجامعية في بيروت ممن انجرفوا إلى ما انجرف إليه من مغامرة غير محسوبة في ظفار تحت تأثير عاملي المراهقة السياسية والاقتداء بالكفاح الفلسطيني المسلح، أن الربعي وصل إلى ظفار عن طريق عدن التي كان قد وصلها من القاهرة جوًا، وذلك بترتيب من كوادر الجبهة الشعبية المقبورة التي كانت لها مكاتب آنذاك في عواصم الأقطار العربية الثورية.
وفي عمان قام بعملية إرهابية بمشاركة البحريني أحمد علي في ولاية «أزكي» بعمان الداخل، حيث قتل البحريني بينما تم القبض عليه واقتيد إلى «سجن كوت الجلالي». كان ذلك في عهد السلطان سعيد بن تيمور ، أي قبل مجيء السلطان قابوس في 1970 وتدشينه عهدًا جديدًا متميزًا بالإصلاحات والانفتاح على العالم الخارجي. لذا فإن الربعي برر تواجده في عمان وظفار، حينما كانت «الجبهة الشعبية» في أوج نشاطها هناك ما بين عامي 1969 و1970، بمساعدة العمانيين في تحرير بلادهم من المستعمر البريطاني ومن سلطة محلية كانت غير مكترثة البتة بالتنمية وحقوق الإنسان، لكن الرجل آمن، في أعقاب مجيء السلطان قابوس للحكم، بأن الأخير حاكم يسعى فعلاً إلى الإصلاح وبالتالي فإن مبرر العمل من أجل اسقاط نظامه أو سلخ ظفارعن أراضيه قد انتفى.
قضى الربعي 7 أشهر من عمره حبيسًا مقيدًا بالسلاسل في «كوت الجلالي» قبل الإفراج عنه وعودته للكويت. وعن ظروف سجنه، وكيفية إطلاق سراحه قال (بتصرف) في حوار مع اللبناني زاهي وهبي بثته قناة المستقبل: «لم يكن هناك شيء اسمه السلطات العمانية.. كانت هناك سلطات انجليزية في السجن الذي هو من أغرب السجون العربية، وكل العمانيين يعرفون أنه مات فيه الكثيرون. مكثت هناك حوالي 7 أشهر، ولكن الذي رأيته أقل بكثير من العذاب الذي طال العمانيين». وأضاف (بتصرف): «في يوم من الأيام قالوا لي: تعال.. سوف تخرج.. طبعا لم أعرف إلى أين سيأخذوننا، لكن الجنرال الانجليزي، وكان شابًا اسمه كوك، قال: سوف نأخذك إلى منطقة لا نعرف إن كنت سترجع منها أم لا؟. كانت هناك قاعدة للطيران في منطقة قريبة من مسقط أخذوني إليها وبتنا في سجنها ليلتين مع بعض المساجين العرب، قبل أن تنطلق بنا الطائرة دون أن نعرف وجهتها، لكني عرفت، من خلال النظر إلى الأسفل، أننا نغادر سلطنة عمان وندخل إلى الإمارات، حيث تم تسليمي إلى ضابط كويتي، فعرفت حينها أن العذاب قد انتهى».
وفي هذا السياق قال أحد زملائه في حركة القوميين العرب وهو «أحمد الديين» (الرأي العام 17/9/2006) إن سمو الشيخ صباح الأحمد، تدخل لدى السلطات العمانية حينما كان وزيرًا للخارجية للإفراج عنه وتسليمه للكويت كي تتم محاكمته في بلده. وهكذا عاد إلى الكويت وحوكم أمام القضاء، وقدم دفاعًا بليغًا عن نفسه، ثم مرض فأدخل المستشفى قبل أن يصدر أمر أميري بالعفو عنه.
وبمجرد صدور العفو عاد إلى دراسته الجامعية التي انقطع عنها عامين، لينهيها بالتخرج في 1976، وليتبعها مباشرة بالسفر إلى أمريكا في بعثة دراسية لنيل الماجستير والدكتوراه من جامعة هارفارد العريقة. ويقول الربعي عن ذلك، طبقًا لما ورد في كتاب «وداعًا يا أحمد»: «لم أكن طالبًا متفوقًا في الدراسة.. كنت وسطًا.
حتى بين أطفالي أحاول ألا أضغط عليهم ليكونوا متفوقين، فليس بالضرورة أن يكون الطالب المتفوق الذي يحصل على امتياز هو الذي يكون ناجحًا في الحياة». ثم يتحدث عن ظروف قبوله في هارفارد فيقول ما معناه إن معدلاته العالية لم تكن بالنسبة لهارفارد كذلك، وبالتالي عرضوا عليه أن يدرس بالجامعة مؤقتًا، ريثما يحصل على النتائج المطلوبة فيعدل وضعه، فقبل التحدي ونجح فيه. وينطلق الرجل من هذه الواقعة ليقدم نصيحة للجيل الجديد مفادها أنه لابد أن يكون للمرء هدف وأن يصر على بلوغه.
عاد الربعي إلى وطنه في 1984 وهو مسلح بالدكتوراه من أرقى جامعات النخبة الامريكية، مع الكثير من النضج والحكمة. خطوته التالية جاءت بعد 5 أشهر من عودته، حينما ترشح لانتخابات 1985 النيابية عن «دائرة مشرف وبيان» التي لم يكن من أبنائها، لكنه فاز فيها، وبالتالي دخل البرلمان لأول مرة في تلك السنة، ثم كرر الترشح ففاز بعضوية مجالس 1992 و1999، علما بأن الحظ لم يحالفه في انتخابات 1996، فتعامل مع الأمر بروح رياضية ولم ينجرف إلى التشكيك في النتيجة أو الإدعاء بوجود مؤامرة ضده مثلما يفعل عادة المترشح الخاسر.
والجدير بالذكر في هذا السياق أنه كان في 1986 ضمن الأفراد والجماعات الناشطة المطالبة بعودة مجلس الأمة بعد حله في تلك السنة، بل انضم إلى «الحركة الدستورية الديمقراطية» كعضو فعَّال وخطيب مفوه في الديوانيات، الأمر الذي تسبب في اعتقاله مع شخصيات أخرى من ديوانية بوعركي بمنطقة مشرف في ابريل 1990 قبل أن يفرج عنهم سريعًا.
وهكذا دخل عالم السياسة من باب جديد غير ذلك الباب الذي استخدمه زمن مراهقته الثورية. وعن هذا تحدث في صحيفة الدستور التابعة لمجلس الأمة الكويتي (2/5/2001) فقال ما مفاده إن قدمه انزلقت يومًا وأصبح سياسيًا، وكان المفترض أن يكون خارج دائرة السياسة لأن الساسة يقولون ما لا يفعلون، أو يتخذون مواقف تبدو في ظاهرها مبدئية لكنها في الحقيقة مدفوعة الثمن.
نعم، انغمس في السياسة على حساب «أجمل ما في حياته وهم طلبته في الجامعة وسبورته وطباشيرته وابو الطيب المتنبي والشعر والحياة»، طبقًا لحمزة عليان (مصدر سابق). وتوضيحًا للجزئية الأخيرة تجب الإشارة إلى أنه عمل استاذا للفلسفة الاسلامية بجامعة الكويت قبل دخوله المعترك السياسي، وعشق عمله الأكاديمي كثيرًا؛ لأنه أعاده إلى مدرسته وجامعته وسكنه الداخلي وصفوفه الدراسية في الشويخ يوم أن كان تلميذًا في مقتبل العمر.
أما فيما يتعلق بالشعر، فربما لا يعرف الكثيرون أنه كتب الشعر ولم ينشره، وأنه كان معجبًا بالشاعرين نزار قباني و«أبي الطيب المتنبي»، وأن الشعر بالنسبة له كان «عالمًا عظيمًا لأن الشاعر يمتلك قدرة في تلخيص الكون والحياة في بيت شعر وقصيدة». لقد قيل إنه كان بصدد نشر قصائده في ديوان وإنه تمنى أن يعيش نزار لكي يكتب مقدمة ديوانه لكن شاء الله أن يرحل الاثنان قبل أن يرى الديوان النور.
مع غزو العراق للكويت، بعد مضي وقت قصير من اعتقاله في ديوانية بوعركي، تجمد كل شيء وكان في عداد من ترك وطنه ليناضل من أجل تحريره من الخارج. كانت تلك سخرية من سخريات القدر المؤلمة، فالرجل الذي ناضل في شبابه من أجل تحرير أوطان الآخرين ها هو يضطر للهجرة والنضال لتحرير وطنه، بل يأتي الغربيون الذين عاداهم طويلاً لمساعدة شعبه في استرجاع أرضه. أما القومية العربية التي آمن بها ونافح عنها فهاهم قادتها يغتصبون بلده ويشردون أهله وعشيرته. لقد اعتبر الربعي الغزو العراقي لبلده بمثابة إهانة وطنية وقومية وأخلاقية، ناهيك عن أنه زلزل الكثير من قناعاته فأعاد النظر فيها. إذ صار، بعد الغزو، أقل إيمانًا بشعارات «الوحدة العربية» و«المصير العربي المشترك» و«انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، وأكثر ميلاً لمبدأ المصالح المشتركة التي تجمع الشعوب والأمم. ولعل أبرز ما سجل عنه هنا هو ما قاله في حوار مع «الراية» القطرية، حيث ورد النص التالي: «إن تجربتنا في المرحلة القومية ليست بالتجربة التي يجب أن نشعل الشموع من أجلها، فلقد كانت تجربة رهيبة مليئة بالأخطاء وعلينا أن نقول ذلك علنا على الملأ (…) إن المسألة لا تكمن في اللافتة المرفوعة للمرحلة سواء أكانت لافتة قومية أو يسارية أو إسلامية لكنها تكمن في.. هل من يرفع هذه اللافتة أو تلك يمتلك برنامجا وأجندة محددة؟ هل لديه هدف واضح؟ هل لديه بوصلة محددة؟».
وبتحرير الكويت وإعادة العمل بالدستور وإجراء انتخابات نيابية وتشكيل حكومة جديدة، تم توزيره فمنح حقيبة التربية والتعليم العالي التي شغلها ما بين عامي 1992 و1996 من خلال حكومتين. والمعروف أنه بدأ العمل في وزارته برفع شعار «الهرم المقلوب» في إشارة إلى عزمه إجراء تعديلات جذرية. فكان أن تحققت في عهده أشياء كثيرة مثل: اقرار كادر المعلمين للمرة الاولى، اقرار تدريس اللغة الانكليزية في المرحلة الابتدائية، تخصيص ميزانية لكل مدرسة، تأسيس اللجنة الوطنية لدعم التعليم، وغيرها.
وكان بامكانه تحقيق المزيد لولا وقوف نواب التيار الاسلامي ضده وتهديدهم له بالاستجواب، لكنه رغم ذلك لم يكره أحدًا من معارضيه الكثر. كان موقفه إزاءهم هو: «إما الدعاء لهم ألا يندفعوا في معاداتهم للناس، وإما التمني ألا يكونوا في هذا الموقع». ولا بد هنا من الإشارة إلى أنه أوصى نجله البكر قتيبة قبل وفاته بجملة «يا ابني أحب الناس.. كل الناس».
وحول توزيره تحدثت زوجته «لمياء عبدالكريم» في حفل لتخليد ذكراه في 6 مارس 2014 فقالت: «كنت من أشد المعارضين لقبوله منصب الوزارة فقال لي اذا لم توافقي فلن اقبلها، لكن أعطيني مبرراتك حتى أدعمك فقلت له ستسقط سياسيًا وتحرق مستقبلك السياسي اذا قبلت الوزارة فأنت رمز سياسي، قال لي اذا استطعت ان أصلح %5 فقط من الذي أتمناه وأفكر فيه فليحترق مستقبلي السياسي».
إلى جانب عمله الاكاديمي والوزاري والنيابي والاجتماعي، مارس الربعي الكتابة الصحفية. فكتب أولاً في «السياسة»، ثم انتقل منها إلى «الوطن» في بداياتها، وكانت له زاويته الشهيرة «بالمقلوب» في «القبس» بدءا من 1991.
كما كتب في «الشرق الأوسط» محتلا الزاوية التي كان يكتب فيها مصطفى أمين قبل وفاته في 1997، حيث تساءل الكثيرون وقتها عما إذا كان بوسعه أن يملأ الفراغ، لكنه ملأه بجدارة. وكتب تركي الدخيل في عكاظ (9/7/2016) بعد رحيله قائلاً: «صحيح أنه هو من سمى قناة (العربية) بهذا الاسم كما يروي صديقه الشيخ وليد البراهيم، لكنه الآن سمى أمورًا كثيرة قبل أن يرحل وعلى رأسها التطرف».
وهذا صحيح فالرجل سبق الجميع في التحذير من خطر الجماعات الأصولية المتطرفة، وكان شجاعًا في نقدهم خلال أوج قوتهم بمعنى أنه لم ينتظر انكسار شوكتهم حتى ينقض عليهم. وآية ذلك ما قاله بشجاعة في وسط الأصوليين أثناء ندوة حاضر فيها بالرياض في 2 مارس 2006.
تعرض الربعي لورم في الدماغ فتعالج في أمريكا لفترة قاربت السنتين، حيث اجريت له هناك عملية تمت فيها ازالة جزء من الورم الخبيث. وفي آخر عودة له إلى وطنه سجل عنه قوله: «عشت 57 سنة حلوين.. وإذا في عمري زيادة زين على زين».
هكذا كان، مرحًا متفائلاً حتى في ساعات الشدة، كيف لا وهو القائل: «نحن في حاجة الى شحنة من التفاؤل غير الكاذب. التفاؤل الذي يعطي الانسان طاقة وقدرة على العطاء». بل تمعنوا في ما قالته قرينته عن رحلة مرضه (بتصرف): «كان شخصية عجيبة علمنا في مرحلة المرض معنى قيمة الحياة. كنا نجلس معه كل يوم في السنتين نتناول الأدب والشعر والسياسة. كانتا سنتين من أجمل أيامنا كأسرة. كان هو من يعطينا الأمل وليس نحن، وكان الدكاترة يتعجبون من ارادته وقوته ورغبته في الحياة. اعتقد أن هذه الفترة من حياته يجب ان تدرس ليتعلم الناس عدم اليأس والاستسلام».
أخبرني شخصيًا في أحد لقاءاتنا في البحرين يوم أن كنا زملاء نحرص سنويًا على المشاركة في «منتدى التنمية الخليجي» أن أكثر لحظات الحرج في حياته كان يوم أن ذهب إلى مسقط كوزير للتعليم للمشاركة في اجتماع وزراء التربية لدول مجلس التعاون، وكان عليه مرافقة نظرائه للسلام على السلطان قابوس. إذ كيف سيقف أمام من مارس ضده القتال يومًا ما. غير أن السلطان طبقًا للربعي كان حكيمًا وأراد أن يشعره بتغير الظروف والأحوال ونسيان الماضي، فخصه بمصافحة طويلة ومقعد قريب من مقعده حسداه عليهما زملاؤه الوزراء.
أقواله المأثورة كثيرة، وتنم عن عبقرية في اختيار الألفاظ والتشبيهات وصياغة الجمل المؤثرة، لكن أكثرها جمالاً وقوة هي:
• الأمم تدرس تاريخها بعين فاحصة ناقدة بهدف ان تتعلم أجمل ما فيه، وتحاول ان تتجنب تكرار أخطاء الماضي، ونحن أمة لا يتجرأ أحياؤها على نقد أمواتهم.
• يا وطني، إني أعدك باسم كثير من الخيرين أن نضبط ساعاتنا على دقات قلبك وكلما سألنا أحدهم عن الوقت أعطيناه التوقيت المحلي لمدينة قلبك الجميل.
• لم أرضَ لفكري أن يتجمد تحت مكيفات الهواء… لذا فإني وضعته تحت مشرط الممارسة وعندئذ خجلت ومت خجلا… ويا لها من خطوة إلى الأمام، أن يخجل الإنسان، فإن هذا يعني أنه انتصر على ذاته ولمصلحة الحقيقة