في مقال سابق بمناسبة الزيارة الأخيرة لسمو الشيخ محمد بن زايد لجمهورية الهند الصديقة وحلوله كضيف شرف في احتفالات الهند بعيدها الوطني السابع والستين، قلنا إنه يُفترض بعث العلاقات القديمة ما بين الهند ودول الخليج العربية وتجديدها وتعزيزها بأطر الشراكة الاستراتيجية طويلة المدى، متعددة الجوانب، وبصورة تعتمد أساساً على خدمة المصالح المشتركة للجانبين، وتبتعد عن الأيديولوجيات والعواطف والشعارات التي لم يعد لها مكاناً في عالم اليوم، كما قلنا إن العملية ليست صعبة ولا تحتاج إلا الإرادة والعزيمة خصوصاً أنه لا يوجد للهند أطماع في بلادنا، ناهيك عن حقيقة عدم وجود قضايا خلافية بين الجانبين حول المياه والأراضي والحدود من تلك التي قد تحول دون شراكتهما، علاوة على أن الكثير من الملفات والقضايا البينية الشائكة التي أزمت علاقة الهند ببعض الأقطار الخليجية في حقبة الحرب الباردة، قد أغلقت إلى الأبد.
أما في معرض الأسباب التي تستوجب الإقدام على بناء شراكة استراتيجية مع الهند، فقد أشرنا إلى حقيقة أن الأخيرة باتت تحقق اليوم قفزات واسعة نحو الصعود إلى مراتب الدول الكبرى، بل وتحتل موقعاً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وعلمياً بارزاً بين الكبار، في الوقت الذي تواجه فيه دول الخليج العربية جملة من التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية والتنموية التي ربما بإمكان الهند مساعدتها فيها عبر التعاون الثنائي البناء، لا سيما أنه حين التمعن في أهداف السياسات الخارجية الهندية ومحدداتها ومرتكزاتها، سنجد تقاطعاً في ما بينها وبين السياسات الخارجية لدول مجلس التعاون بصفة عامة، فالأخيرة، كما الهند، معنية بقضايا العولمة، والانفتاح الاقتصادي، والتنمية الاقتصادية، والأمن والسلم العالميين بما فيها الأمن الإقليمي وأمن الممرات البحرية، ومكافحة الإرهاب والقرصنة، وإصلاح منظومة الأمم المتحدة، والتعاون ما بين دول العالم الثالث، وإخلاء العالم من كل الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل وفق اتفاقية دولية لا تستثني أحداً.
فلو أخذنا الأمن الإقليمي في الخليج على سبيل المثال لوجدنا أن وجهة النظر الهندية ترحب بفكرة أن يكون أمن منطقة الخليج هو مسؤولية المجتمع الدولي. وهذه تلتقي مع وجهة نظر كبرى الدول الخليجية (السعودية) على نحو ما صرح به وزير خارجيتها الراحل الأمير سعود الفيصل أثناء «حوار الأمن الخليجي» في المنامة في ديسمبر 2004 حينما قال للمرة الأولى «إن البعد الدولي للإطار الأمني المقترح يقتضي المشاركة الإيجابية للقوى الآسيوية التي برزت على المسرح الدولي حديثاً وخصوصاً الصين والهند»، مضيفاً أن «أمن الخليج يحتاج إلى ضمانات دولية لا يمكن توافرها على أساس منفرد حتى لو جاء من طرف القوة العظمى الوحيدة في العالم».
ولعل ما يساعد على ردف تطلعات دول الخليج صوب الهند أمور كثيرة منها أن الاقتصاد الهندي، رغم الظروف العالمية الصعبة، أصبح في المرتبة السادسة عالمياً من حيث الناتج المحلي الإجمالي من بعد اقتصاديات الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا وفرنسا، بل يتوقع له احتلال المرتبة الخامسة بدلاً من فرنسا خلال ثلاث سنوات طبقاً لتوقعات صندوق النقد الدولي، كما أن الاقتصاد الهندي صار من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم، متفوقاً على الصين التي احتفظت بهذا اللقب لسنوات طويلة. هذا في الوقت الذي تحقق فيه الهند تقدماً مشهوداً في صناعة الدواء والبرمجيات وتكنولوجيا المعلومات والأقمار الصناعية ووسائط النقل، من بعد تحقيقها للاكتفاء الذاتي في الغذاء، هذا ناهيك عن تفوقها العسكري براً وجواً وبحراً، واحتلالها لموقع سياسي مرموق في المجتمع الدولي بفضل مصداقيتها ومبادراتها وسياساتها الخارجية الحكيمة.
كتب الزميل الأستاذ راشد صالح العريمي في الحياة (30/1/2017) أن زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد للهند كانت «أكبر من مجرد زيارة تم فيها توقيع اتفاقات اقتصادية وإبرام تفاهمات سياسية مهمة ومفيدة للبلدين. فهذه الزيارة جزء من تحرك استراتيجي أوسع هدفه بناء تحالفات سياسية مع القوى الفاعلة في العالم، استباقاً لتحولات كبيرة يمكن أن تمثل خطراً على أمن منطقة الخليج واستقرارها». ومثل هذا الكلام صحيح، والدليل أن الزيارة أسفرت عن الإعلان عن شراكة استراتيجية بين دولة آسيوية مركزية كبرى صاعدة هي الهند، ودولة عربية آمنة مزدهرة ذات مصداقية في المجتمع الدولي هي دولة الإمارات. وبطبيعة الحال فإن مثل هذه الشراكة لا تخدم الإمارات وحدها وإنما تخدم ظهيرها الخليجي أيضاً، خصوصاً أن كل دول الخليج، بما في ذلك السعودية التي خيمت على علاقاتها مع الهند الهواجس والشكوك لعقود طويلة بسبب باكستان وتحالفات حقبة الحرب الباردة، باتت اليوم تتمتع بروابط قوية مع الهند في مختلف المجالات وعلى مختلف الصعد، وذلك انطلاقاً من شعورها بضرورة قراءة الأوضاع الدولية قراءة واقعية صحيحة، والتحرك الفوري من أجل استغلال كل الفرص المتاحة لإقامة علاقات وروابط متينة مع قوى العالم الصاعدة درءاً للأخطار المستقبلية أو تخفيفاً من تأثيراتها السلبية، ومثلما حدث على هامش زيارة سابقة لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد إلى الهند قبل عام، ومثلما حدث أيضاً على هامش زيارات قام بها قادة ومسؤولون خليجيون كبار لهذا البلد الصديق، فقد جرت محادثات مطولة تطرقت إلى سبل تعزيز علاقات التعاون والصداقة بين البلدين، والبناء على ما وصلت إليه العلاقات الثنائية من تطور في الفترة الماضية، والتنسيق والتشاور بشأن القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، الأمر الذي يعكس مدى تطور العلاقات الخليجية – الهندية، من بعد عقود كانت فيها بوصلة الهند موجهة للأسف نحو الأنظمة العربية الراديكالية.
نقلا عن العربیه