تعرف مارين لوبن الأصول والأعراف والتقاليد، وقد كانت ستمتثل لها لو كان الأمر مرتبطا بزيارة كنيس يهودي أو معبد هندوسي، لكنها لم تفعل لأنها تقصدت، كما وصف جنبلاط، إهانة اللبنانيين.
لم تهتم مارين لوبن بمضامين ما سمعته في بيروت من المسؤولين الذين فتحوا لها مكاتبهم أثناء جولتها البيروتية الأخيرة. فزعيمة حزب الجبهة الوطنية الفرنسي اليميني المتطرّف ليست معنية بمواقف اللبنانيين في شؤون المنطقة والعالم، بل هي منشغلة في ورشة حصد لأصوات الناخبين في سباقها نحو الفوز برئاسة الجمهورية في بلادها، وهي في هذا الشأن ليست معنية، أيضا، بأصوات الفرنسيين في لبنان الذين تقدر الإحصاءات عددهم بـ20 ألف ناخب جلّهم من أصول لبنانية.
ما يهم لوبن هو أن تقتدي بتقليد فرنسي لطالما اتبعه ساسة فرنسا يقضي بالتعامل مع لبنان بصفته فضاء فرنسيا رومانسيا، بالمعنى الوجودي لظلال الإمبراطورية المنقرضة، على الرغم من أن وقائع الحال أفقدت باريس أي نفوذ حقيقي يذكر، وأفقدت فرنسا هالتها اللبنانية بصفتها “الأم الحنون” لهذا البلد.
قبل لوبن “حجّ” إلى لبنان المرشحان الفرنسيان فرنسوا فيون وإيمانويل ماكرون. غرف الرجلان من مياه البلد وأطلوا على الطموحات الرئاسية من خلال النافذة اللبنانية توسلاً لتموضع داخل هذا الشرق يرفد حراكهما داخل ذلك الغرب. وفي كل تلك الزيارات، بما في ذلك زيارة لوبن، كرر المرشحون، جميعاً، كلاماً لا يباع إلا في أسواق فرنسا، دون أن يكون له وقع لبناني مرتبط بهموم هذا البلد، وما أكثرها.
ومع ذلك قد ينتعش بعض اللبنانيين من تردد مسؤولين فرنسيين على بلدهم، معوّلين على الرجوع إلى دور باريسي يعيد عقارب الساعة إلى زمن سابق على الحرب الأهلية وعلى اتفاق الطائف الذي خرجت به. في ذلك أن زيارات المرشحين تنفخ عبقاً عن حرص فرنسي مستجد على مسيحيي لبنان (فيون- لوبن خصوصا)، يسوّل لبعض المسيحيين استدراج حنين قديم كانت فيه قوة المسيحيين في البلد متناسلة من إرادة غربية مسيحية في هذا الصدد.
تهتاج بعض الغرائز المسيحية الخافتة، لكن جل مسيحيي اليوم باتوا مدركين أن هذا الغرب غير معني بمصير المسيحيين في الشرق، ويتذكرون أن واشنطن أرسلت دين براون مبعوثها الشهير ليحض المسيحيين في أوائل الحرب الأهلية على مغادرة بلدهم، فيما تعايشت فرنسا نفسها مع زمن الوصاية السورية على البلد، رغم ما سببته هذه الوصاية من تهميش لدور المسيحيين، ومصادرة لمشاركتهم الحقيقية في تقاسم السلطة في البلد.
استنتجت مارين لوبن في لقاءاتها السياسية، ابتداء برئيس الجمهورية، مرورا برئيس الوزراء، وانتهاء بشخصيات سياسية شتى، تعدد المواقف والآراء اللبنانية حول شؤون الإسلام والإرهاب والموقف من الكارثة السورية. استمعت لوبن، دون أن تنصت، لأطروحات لا تتسق بالضرورة مع شعاراتها، وربما أنها لاحظت صمتاً إيجابيا وآخر متحفظاً حيال ما تخرج به في شؤون العالم. ومع ذلك جاءت السيدة الطموحة تدلي بأقوال معدّة سلفاً، وملكت من الوقاحة بحيث تتجاوز أستانة وجنيف وقرارات الأمم المتحدة وجهود مبعوثها الدولي إلى سوريا، لتفتي بضرورة بقاء بشار الأسد في السلطة دفعاً للبديل “داعش”.
قد يقترب موقفها في هذا الشأن مع موقف الرئيس ميشال عون، ويبتعد إلى النقيض من موقف الرئيس سعد الحريري، فيما اختصر وليد جنبلاط موقفه من فتاوى لوبن “هذه إهانة للشعبين السوري واللبناني”.
لكن لوبن جاءت إلى لبنان وفي ذهنها إنجاز ضجيج إعلامي يلفت نظر ناخبيها ويشد بعض المترددين إلى موقفها المتشدد ضد ذلك الإسلام الذي تستسهل خلطه، دون رمشة جفن، بالإرهاب. ففي ذلك ذخيرة لا بد منها هذه الأيام للنفخ بشعوبية لطالما كانت هامشية، وأضحت تفيض على المشهد السياسي الغربي العام.
مارين لوبن ابنة رجل السياسة اليميني المتطرّف جان ماري لوبن. من ذلك البيت بنَتْ الابنة عقيدتها الكارهة للأجانب، والتي تختلط داخلها وصفة معادية للسامية تارة، ومعادية للإسلام تارة أخرى. لكن لوبن الابنة تمكّنت بدهاء ورشاقة من تحديث الحزب الذي أسسه والدها، وسعت إلى تغيير صورته العنصرية باتجاه سمات قومية وطنية تقوم على شعار “فرنسا أولاً”. في ذلك أنه نفس الشعار الذي استخدمه دعاة “بريطانيا أولاً” لتمرير البركسيت، وهو نفس شعار “أميركا أولاً” الذي أتى بدونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة. ولم تتردد لوبن الابنة في ورشتها التحديثية في طرد لوبن الأب من صفوف الحزب، في سعي لإقناع الفرنسيين بأنها استغنت عن ميراث والدها المترجل من كوابيس الحرب الجزائرية.
حلّت لوبن في بيروت بصفتها شخصية أساسية في المشهد السياسي الفرنسي. صحيح أن الكثير من زعماء الدول في العالم تجنبوا استقبال زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي، لكن لوبن التي تضعها استطلاعات الرأي في مقدمة الفائزين في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية (أبريل المقبل)، أضحت رقماً صعباً لا يمكن لساسة لبنان تجاهله، لا سيما وأن السيدة المسترئسة باتت من المقربين من ترامب في واشنطن، ومن المحببين لدى فلاديمير بوتين في موسكو ومتوقع أن تطرق باب الإيليزيه في الدورة الثانية للانتخابات في مايو المقبل.
مارين لوبن في فرنسا، أو نايجل فراج في بريطانيا، أو دونالد ترامب في الولايات المتحدة، شأنهم شأن الشخصيات والأحزاب الشعبوية الأوروبية الأخرى، جعلوا من تفكيك النظام الدولي هدفاً، ومن العداء للهجرة والتلميح بشقّها الإسلامي وسيلة.
كان على ترامب المرشح أن يَعِدَ بمنع المسلمين من دخول بلاده أو إدراج المسلمين في الولايات المتحدة داخل سجل خاص، وصولاً إلى الهرولة حين تسلم الرئاسة إلى إصدار المرسوم التنفيذي الشهير الذي يقفل أبواب الولايات المتحدة أمام مواطني سبع دول إسلامية.
تكرر لوبن الفرنسية أفكارها المعادية للإسلام “صوناً للثقافة والحضارة الفرنسيتين”. تلك بضاعة مرغوبة هذه الأيام تجد زبائن لها في قواعد اليمين كما قواعد اليسار، بحيث لم يعد غريباً أن كتلة الجبهة الوطنية الناخبة باتت عمالية. لم يعد ذلك الناخب يخفي أمر ذلك حتى لو ترجلت خلفيته من بيئات يسارية، وحتى تروتسكية متطرفة. لذلك قدمت لوبن إلى بيروت لكي تظهر موقفا من هذا الإسلام وهؤلاء المسلمين أمام أبواب دار الفتوى في بيروت.
نجحت مارين لوبن في ما أرادت له أن يكون فرجة أمام عدسات الكاميرات وجمهرة الصحافيين. احتار اللبنانيون في أمر الحدث وضروراته. خرجت وسائل التواصل الاجتماعي بصور للرئيس الراحل رفيق الحريري وزوجته نازك التي كانت تضع غطاء للرأس حين قاما بزيارة البابا يوحنا بولس الثاني في الفاتيكان. وخرجت صور أخرى للرئيس سعد الحريري وعائلته في ضيافة البابا بنديكتوس السادس عشر في الفاتيكان أيضا. كانت زوجة الحريري تضع غطاء الرأس أيضا.
تعرف مارين لوبن الأصول والأعراف والتقاليد، وقد كانت ستمتثل لها لو كان الأمر مرتبطا بزيارة كنيس يهودي أو معبد هندوسي، لكنها لم تفعل لأنها تقصدت، كما وصف جنبلاط، إهانة اللبنانيين. كانت تعرف أن وضع الغطاء مطلوب وتم إبلاغها بالأمر حين تم ترتيب موعدها للقاء المفتي، لكنها تظاهرت بالقبول بالأمر، وتقصّدت افتعال الحدث أمام أبواب الصرح الإسلامي، الذي يمثل في جانب، جزءا من المشهد اللبناني التعددي برمته.
في خلفية جولة لوبن البيروتية روّجت تقارير نوستالجية لمشترك يجمع “الجبهة الوطنية” بالميليشيات المسيحية إبان الحرب الأهلية اللبنانية. أفاضت التقارير في التغني بأن أعضاء نافذين في حزب لوبن سبق أن قاتلوا في لبنان دفاعاً عن الوجود المسيحي في لبنان.
جاءت مارين لوبن تبشّر المسيحيين ببقاء الأسد ترياقاً ضد الإرهاب. خرج سمير جعجع، قائد “القوات اللبنانية”، القوة الأكثر تأثيرا في حراك المسيحيين العسكري إبان زمن الاحتراب اللبناني، ليخبر لوبن، التي لا تنصت، أن قلب الإرهاب موجود في نظام دمشق.
لا شك أن مارين لوبن سمعت كثيراً عن جمال لبنان وخصوصية مناخه. لا يبدو أنها لاحظت ذلك، لكنها أمام أبواب دار الفتوى في بيروت استمتعت ملياً بهواء البلد العليل.