المشروع في إطلالاته الأولى قد لا يتجاوز كونه أفكارا للاستهلاك المؤقت من أجل مقاصد عرضية مرتجلة، لكن المشروع قد يؤسس أيضا لإعادة تشكيل سوريا، وربما الجوار أيضا.
يكفي أن تصدر عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أفكار لإقامة مناطق آمنة في سوريا حتى ترتبك كل السياقات الجارية وتنطفئ محركات الدبلوماسية، في بعديها الروسي في أستانة والأممي في جنيف، بانتظار تموضع جديد تضخه الأفكار المجهولة في قلب الصراع في سوريا وحولها.
الأفكار بمسوداتها الأولية تعكس استدارة أميركية باتجاه الفعل في الشأن السوري بعد استقالة من أي دور مباشر فعال يليق بأدوار الدولة الكبرى في العالم. اكتفت واشنطن بتفاهمات متفرقة كان أبرزها ما شابه “وكالة” منحتها لموسكو في الملف السوري، وواكبتها عبر أنشطة وزير الخارجية جون كيري وبقيت تحت سقفها وقواعدها.
وتتناول الأفكار بأعراضها التجريبية الشأن السوري ليس بصفته كارثة على السوريين ومصدر اختلال جيواستراتيجي في كل المنطقة، بل بكونه حلولاً لمنع تصدير اللاجئين إلى الخارج (الأميركي خصوصاً)، من خلال إقامة كيانات قانونية وربما سياسية لاحقا ينحشر فيها اللاجئون إلى أجل غير مسمى.
والأفكار التي تصل متأخرة بعد ست سنوات من الصراع تأتي منهكة غير مناسبة لما وصلت إليه حكاية المأساة وخرائط اللاعبين داخلها. فحتى الذين كانوا متحمسين للمطالبة بها، بدا ترحيبهم بالأفكار دبلوماسياً لا ينمّ عن حماس أو قناعة. ثم إن تلك الأفكار التي يرتجلها الرئيس الأميركي لا تشي بعزم دولي داهم على حل الأزمة السورية والتعجيل بوقف عجلة الموت في سوريا، بل بالعكس جاءت لتقول للسوريين والدول المحيطة بسوريا إن فرض السلام والأمن في سوريا ككيان كامل ما زال مستحيلاً، وأن إقامة مناطق آمنة تستسلم لقدر أن ما هو خارج هذه المناطق سيكون لأجل طويل غير آمن.
ليس ترامب صاحب فكرة المناطق الآمنة ولم يكن من مروّجيها. جاء الاقتراح أثناء حملة الانتخابات الرئاسية على لسان نائب الرئيس المرشح مايك بنس. اقترح الأخير هذا الحل، من ضمن سياق يراد له إثبات قوة الولايات المتحدة ونفوذها أمام الصعود الروسي في هذا البلد. في حينه قال ترامب إنه ليس على علم باقتراح بنس وهو غير موافق عليه. فأما وقد وافق الرجل الآن فحري مراقبة بنس وما ينطق به وما يمثله داخل المؤسسات الأميركية، لكي يتبنى الرئيس اقتراحاته حين أصبح رئيسا بعد أن رفضها حين كان مرشحاً.
إقامة مناطق آمنة وفق رؤية ترامب هي أفكار وجب التشاور فيها مع الأصدقاء في العالم. بدأ الموقف الروسي متحفظاً على مقاربة أميركية تنتهك في الشكل قواعد “الوكالة” الممنوحة من إدارة باراك أوباما في الشأن السوري، وتنهي عقد “الاحتكار” الذي تتصرف إدارة الرئيس فلاديمير بوتين على أساسه. قالت موسكو إنه “لم تتم استشارتنا”، وحين تم الاتصال الهاتفي بين الرئيسيْن الأميركي والروسي، اكتشف وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أن الأفكار في إرهاصاتها الأولى تختلف عما كان مطروحاً سابقا (غامزا من قناة الرؤية التركية في هذا الشأن)، وأن هذه المناطق لن تكون كتلك التي أقيمت في بنغازي في ليبيا وأسست بعد ذلك للقضاء على نظام معمر القذافي. وعليه فإن “أصول” إقامة تلك المناطق، وفق الرؤى الروسية، هي المرور عبر الحكومة السورية في دمشق، إلى درجة أن وزير الخارجية السوري وليد المعلم اعتبر “أن أي محاولة لإقامة مناطق آمنة للاجئين والنازحين دون تنسيق مع دمشق عمل غير آمن”.
ستفهم هذه الأفكار بشكلها العرضي المتسرع وفق ما يريد المتلقي أن يفهم. رحبت تركيا وقطر، حتى قبل أن توضح واشنطن هذه الأفكار ومقاصدها، لكن سرعان ما صدر عن “المحللين السياسيين” الأتراك ما يعبّر عن هواجس الأتراك من قيام تلك المناطق ودورها في إزالة حدود وإقامة حدود. وفي بال أنقرة أسئلة حول وظيفة “المناطق الآمنة” في الرؤية العامة للبنتاغون في عهد ترامب والذي رفع من مستوى تسليح قوات سوريا الديمقراطية (الكردية المضمون) وتزويدها بالمدرعات، على الرغم من الطابع “الإرهابي” الذي تنظر به أنقرة إلى هذه القوات وتواصلها العضوي مع حزب العمال الكردستاني في تركيا.
لن تعادي عواصم المنطقة الهمة (الإنسانية) التي يبديها ترامب في إقامة مناطق آمنة، رغم أنها تراقب بحذر رفعه الأسوار أمام اللاجئين
حمل ترامب أفكاره هذه وتواصل بشأنها مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، كما مع ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد. ناقش ترامب في اتصاليْه مسألة إقامة مناطق آمنة في سوريا واليمن. أتت مسألة المناطق في اليمن خارج أي سياق ودون أي سوابق في الجدل الأميركي أثناء وبعد الحملة الانتخابية الرئاسية. صدر في البيان الرسمي الأميركي ما يؤكد موافقة السعودية والإمارات على أفكار ترامب المتعلقة بإقامة المناطق الآمنة. وفي تفحص لرواية السعودية والإمارات حول الأمر لا نجد في البيانات الرسمية أو شبه الرسمية حول اتصالي الرئيس الأميركي أي ذكر لتلك الأفكار وتلك المناطق.
لن تعادي عواصم المنطقة الهمّة “الإنسانية” التي يبديها ترامب في إقامة مناطق آمنة، رغم أنها تراقب بحذر رفعه الأسوار أمام دخول اللاجئين لبلاده. ولن تعبّر هذه العواصم إلا عن ترحيب نظري لما هو حتى الآن نظري ركيك يحاكي حسابات داخلية أميركية، أكثر من محاكاته لتحوّلات إستراتيجية قد تغير الخرائط في المنطقة. لكن هذه العواصم ستواكب وتراقب نمو الأفكار وسيرورتها علها تجيب عن أسئلة لا بد منها لتنفيذ خطط الرئيس الأميركي الطموحة.
لا تشي خطة ترامب بحجم التمويل ومصادره لتغطية كلفة هذه المناطق التي تستدرج المليارات من الدولارات. ولئن تلوّح تصريحات الرئيس ترامب حين كان مرشحا بميول نحو انتزاع هذا التمويل من الصناديق الخليجية، فإن ترامب سيكتشف في البيت الأبيض أن دول الخليج تغيرت، وأن تجربتها مع إدارة أوباما تدفعها للمطالبة باشتراط أن تتناسب أي شراكة مع أي استحقاق دولي مع مصالحها ورؤيتها ومواقفها. وعليه فإن أي طموحات لترامب في شأن مساهمات خليجية في ما هو شأن سوري يجب أن تلتقي مع الموقف الخليجي في هذا الملف ومآلاته المحتملة.
وإذا ما كان التقارب المعلن ما بين ترامب وبوتين سيطوّع أفكار الرئيس الأميركي وفق اشتراط موسكو أن تقام المناطق الآمنة بالتنسيق مع النظام السوري، فإن الموقف الخليجي سيتحفظ على دعم مبادرة لا تأخذ بعين الاعتبار مسؤولية دمشق مباشرة في المأساة الراهنة التي تعيشها سوريا والسوريون، وسيرفض أي تدبير لا يلحظ مسؤولية إيران ونفوذها السوري في المعضلة الراهنة لهذا البلد.
لكن الأمر لا يتعلق بمسألة التمويل فقط، بل إن المعنيّ بشأن إقامة هذه المناطق يتساءل عن الوضع القانوني والسيادي لها، ولمن ستكون تابعة، كما مدى إمكانية أن تكون شبيهة بالمناطق التي قسمت بعد الحرب العالمية الثانية ألمانيا إلى 4 أقسام تتولى إدارتها فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. لكن الأهم من كل ذلك هو القوة أو القوى العسكرية التي ستشرف على تأمين هذه المناطق، لا سيما هويتها ومدى اتساق طابعها الإقليمي والدولي مع أجندات القوى المنخرطة داخل الصراع السوري.
المشروع في إطلالاته الأولى قد لا يتجاوز كونه أفكارا للاستهلاك المؤقت من أجل مقاصد عرضية مرتجلة، لكن المشروع قد يؤسس أيضا لإعادة تشكيل سوريا، وربما الجوار أيضا، بحيث تتحول تلك المناطق إلى دول جديدة يفرضها الأمر الواقع للتعايش مع “سوريا المفيدة” التي رسمتها دمشق، وعملت موسكو وطهران على تحصين حدودها. وإذا ما تم هذا الافتراض من ضمن “عهد التعاون” المتوخى بين روسيا والولايات المتحدة، فإن تركيا التي تضمن “منطقتها” التي غزتها بمفاعيل “درع الفرات” قد تجد مكانا لها داخل ذلك السيناريو، فيما تنظر طهران بعين القلق إلى مستقبل غير مضمون لإيران داخل تلك التحوّلات المحتملة، بحيث أن موقعها داخل سوريا المفيدة قد لا يعدو كونه مرتبطا بما تتيحه تفاهمات ستكون متأثرة جدا بالبيئة العدائية التي عبر عنها ترامب وشخوص إدارته.