الدستور مرآة المجتمع. وهوية الأمة. ووطن الدولة. وعنوان السيادة. الدستور ليس هدية تُهدى من أمة إلى أمة. ولا يُفرض من دولة على دولة، إلا إذا كانت الدولة المتلقية للهدية فاقدة للسيادة. والدولة المقدمة للهدية غازية. ومعتدية. ومحتلة.
في الحالة السورية الراهنة، تعلن روسيا عن تقديمها مسودة دستور سوري معدَّل، إلى معارضات سورية مريبة «لدراستها وإبداء الرأي فيها». بينها عناصر كردية وسورية محسوبة على دول إقليمية. أو قريبة من نظام بشار. فلم تغادر المدن والمناطق التي يسيطر عليها.
روسيا لم تعلن رسميًا نص التعديلات المقترحة. إنما سُربت معلومات وشائعات متناقضة عن مضمونها. فلم تنفها. في مقدمتها ما قيل عن اقتراح بتطبيق «الديمقراطية والعلمانية». واقتراح آخر بإلغاء «العروبة» من الدستور السوري الحالي الذي وُضع تحت إشراف النظام، منذ عدة سنوات. و«انتخب» بشار نفسه رئيسًا للمرة الثالثة استنادًا إليه، بعدما قضى في الحكم والسلطة 14 سنة، تشكل ولايتين رئاسيتين، مدة كل منهما سبع سنوات.
سارعت المصادر الإيرانية الرسمية وغير الرسمية إلى رفض ونقد الديمقراطية والعلمانية. ذلك أمر بديهي. فدولة دينية مثل إيران، لن تقبل بديمقراطية وعلمانية، في دولة أخرى أنشبت أظفارها وأنيابها الاستيطانية في لحمها الطري وجسدها الجريح.
وصمتت الدولة الإيرانية، إلى الآن، عن قول رأيها في الاقتراح الروسي بإلغاء عروبة سوريا. لكن صمتها يرجِّح تأييدها لنفي هوية بلد تحتله. وتريد أن تزرعه بمستوطنات طائفية شيعية، لتجيز لنفسها تدخلها فيه. وتمزيق انتمائه القومي. وفصله عن أشقائه العرب.
أما روسيا فمن البديهي أيضًا أن تقدم على اقتراح إلغاء الهوية القومية، وهي تعرف سلفًا أن هناك أطرافًا في المعارضة السورية مستعدة لسلخ هويتها عن جلدها. الواقع أن المعارضات السورية السياسية التي تشكلت منذ بداية الانتفاضة، تخلت عن الإعلان عن انتمائها القومي، إما مسايرة ومداهنة لدول وجهات أوروبية احتضنتها وربما رشتها. وإما نكاية بالنظام الذي ما زال يستر عريه بالإعلان عن تمسكه بعروبة زائفة. شقية. وقمعية، لا تخفي تحالفه مع دولة إقليمية معادية للعروبة. وللغالبية السنية العربية. بين هؤلاء أحد أعضاء الائتلاف السياسي المعارض الذي طرح مشروعًا لدستور بلا عروبة، ظنًا وسذاجة منه، أنه يمكن أن يصلح كدستور ديمقراطي، إذا جُرد من الهوية القومية لغالبية السوريين.
أما المعارضات الدينية المسلحة التي ترفض وصاية المعارضات السياسية، فقد اعتبرت إسلامها تخليًا عن عروبتها! وارتبط معظمها عبر انتهازية المؤانسة والمعاشرة بالتنظيمات المتزمتة («داعش». و«القاعدة». و«النصرة». و«فتح الشام»)، بدلاً من إنشاء جيش سوري حر وموحد.
هذه التنظيمات لقيت هزيمة مرة أمام الميليشيات الشيعية التي زجت بها إيران في سوريا. ثم قبلت بالنصيحة الروسية، للانفصال عن التنظيمات المتزمتة المذكورة، فتعرضت إلى هزيمة أخرى أمام «داعش» و«النصرة» في ريف حلب الشمالي ومحافظة إدلب.
كذلك فقد استغلت ميليشيا «حزب العمال» الكردي إسقاط المعارضات السورية السياسية والمسلحة للهوية القومية، فتجرأت على الإعلان عن هويتها الانفصالية، بعدما أنعم عليها نظام بشار بالجنسية السورية. وأقامت منطقة «حكم ذاتي» محاذية للحدود التركية/ السورية. وتمتد من شرق نهر الفرات إلى حدود كردستان العراق. وهي تساير أميركا وروسيا بالإعلان عن استعدادها للمشاركة في تحرير محافظتي الرقة ودير الزور من نير «داعش».
انتهى مهرجان السيرك الروسي في آستانة، بخلاف روسي/ إيراني، حول النص في البيان الختامي، على ضرورة سحب الميليشيات الأجنبية من الأراضي السورية. الطرافة الغريبة أن إيران توافق على انسحاب ميليشيات الشيشان. والتوانسة. ومرتزقة «داعش» الآتين من البلقان وأوروبا الغربية. وترفض سحب الميليشيات الشيعية، بما فيها مرتزقة «حزب الله».
وها هو القوميسار سيرغي لافروف وزير خارجية الرئيس بوتين، يعلن عن تأجيل مؤتمر جنيف الدوري، من دون استئذان الأمين العام الجديد للأمم المتحدة. وغرض لافروف الإمساك بكامل أوراق اللعبة، تأهبًا لمواجهة وإحباط مشروع «الصديق» الجديد لروسيا دونالد ترمب الذي يريد إقامة مناطق آمنة، لإيواء السوريين النازحين في الداخل. واللاجئين إلى الخارج، كي لا يتدفقوا مرة أخرى نحو أوروبا أو أميركا.
ناطحة السحاب التي يملكها الرئيس ترمب لا يتسع سطحها للاجئين السوريين. أين، إذن، يريد أن يعبئ هؤلاء المساكين؟ على الأغلب في المنطقة التي تحتلها تركيا. والممتدة من جرابلس الحدودية في غرب الفرات إلى أعزاز وعفرين، بعمق خمسين كيلومترا داخل الأراضي السورية. هذه المنطقة تجاور منطقة «الحكم الذاتي» الكردية في شرق الفرات.
في هذه الكومة من الخيوط المتداخلة، تأتي التحركات العربية، من دون تنسيق على أعلى المستويات. فها هو العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني يعلن، بعد زيارته للرئيس بوتين، عن زيارة لترمب تسبق زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي قيل إنه سيكون الرئيس العربي الأول الذي سيقابل الرئيس الأميركي الجديد.
لعل الملك عبد الله يستعجل الاطمئنان على المساعدة المالية الأميركية لبلاده، كي لا تضيع في «تغريدة» من ترمب على موقع «تويتر»، نكاية بسلفه أوباما الذي رشحها للارتفاع من 600 مليون إلى مليار دولار. لكن ماذا سيقول الملك عبد الله الثاني لترمب عن احتمال نقل السفارة الأميركية إلى القدس، كاعتراف بها عاصمة لإسرائيل؟ وماذا سيقول له عن «إخوان» الأردن، بعدما أعلن ترمب عن إمكانية إعلان «الإخوان» جماعة «إرهابية»، لاشتباهه بعلاقتها بعمليات عنف ضد نظام السيسي؟
أخيرًا، ماذا عن المسعى الكويتي بين السعودية وإيران؟ هل دبلوماسية الأمير الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح الشهيرة التي رشحت الكويت يومًا، لتكون دولة محورية، تعاود نشاطها شعورًا منها بواجبها القومي، بعدما باتت حال العرب أشبه بقول الشاعر القديم: «ومن رعى غنمًا في أرض مأسدة / ونام عنها، تولى رعيها الأسد».
نقلاعن ایلاف