من قم إلى الغسرة وذاكرة العنف/سعيد الحمد

4606

تسعة وعشرون عامًا ليست عمره بعدد السنين فحسب بل هي ذاكرة ثقافته ومحيط وعيه الذي اختزنه ورضعه صغيرًا بين حق وما يسمى بتيار الوفاء وبين خطابات خامنئي ودروس خميني.
رضا الغسره، لم يُعرف مثقفًا ولم يُعرف سياسيًا وبالتأكيد لم يُعرف مفكرًا بل عُرف عنيفًا بصيغة ارهابية فاقعة، مارسها منذ خطوته الأولى حين تلقفته حق وتيار الوفاء فأدخلوه بوابة الانتحار المؤجل.
وحان الوقت الذي لم يمتد به هذه المرة ليسقط صريع عنفه المعمَّد بشهوة الدم التي تلبسته ولم يفهم غيرها فظل يطلب الانتحار بوصفه «استشهادًا»، كما لقّنوه هناك وكما قالوا له من فوق منبر التفَّ بسواد وسوداوية قادة وزعماء لم يجرؤوا ان يكونوا مثالا وقدوة ونموذجا في طلب الانتحار فزجوا بصغارهم الى طريق الجحيم، وكان المدعو رضا الغسرة اكثرهم حماسا متقدا بنشوة المديح التي مدحوه بها فطلب الانتحار ولم يقتنع بالمؤبد وبعشرات السنين محكومًا، فاحترف لعبة الهروب من السجن وكأنه يدعو الى قتله الذي تأجل وطال انتظاره له، فكان قد اختار وقد قرر هذه المرة ان ينتحر إن لم يقتلوه، فخرج في مغامرة طائشة انتحارية صارخة، فكان لا بد أن يلاقي النهاية الذي ظل يطلبها ويركض نحوها بأقصى سرعته وبعظيم نشوته.
وللانتحار أشكال عديدة وطرق كثيرة وأساليب مختلفة، وما حدث فجر الخميس الماضي لرضا الغسرة كان شكلاً من اشكال الانتحار الاختياري مع سبق الاصرار عليه والتعمد في طلبه بطريقة استفزازية متحدية ومغرورة حتى لا يتأخر انتحارها وقد سعى إليه منذ سنين.
سيكيولوجيته، سيكيولوجية انتحارية بامتياز، ولم يكن يطلب «نجاح» عملية الفرار فجر الخميس حين ركب القارب وقاد عملية هروب محكوم عليها بالفشل قبل ان تبدأ، وهو دون غيره من الصغار الهاربين يعلم يقينا بفشلها في هذه الظروف ولكنه كان يطلب الانتحار الذي سكنه وترسخ في ذاكرة دموية عنيفة هي مجمل ذاكرته وهي محيط ثقافته وهي فكره وأيديولوجيته.
فهذا المسكون بالعنف والدم ثقافة وفكرًا، لم ينشر ولم يوزع بين «ربعه» وجماعته صورة له مع كتاب او لوحة فنية، ولكنه حرص وتعمد ان تنشر صوره مع بندقية ينظرها وتنظره او صورة له وهو عاري الصدر يتحدى الآخر ويستفزه ويدعوه لنزال خاسر يطلب فيه الموت انتحارًا.
لو كان يطلب النجاة من الموت انتحارًا كما قرر وكما اختار منذ سنين، لكان استسلم وهو يقود عملية الفرار في القارب المسلح، ولكنه بادر باطلاق النار وكأنه يحث المطاردين على قتله، وحين اطلق النار كان متيقنًا وكان يعلم أنه مقتول لا محالة، وهو ما كان يطلبه منذ لحظة هروبه الأول.
رضا الغسره «نحروه» جماعته وقادته حين غذوه طفلاً صغيرًا ثم شابًا يافعًا بشهوة الدم وبفكرة العنف القاتل، فخرج ليقتل ثم ينتحر، لكنه فشل في ان يقتل ونجح في ان ينتحر.
وبيّن القتل والانتحار مسافة رصاصة اطلقها الغسرة لتقتل فقتلته، وهو ما كان ينتظره حين همس له ذات يوم ليس ببعيد زعيمه وقائده في وكر الموت المظلم الذي كان يحدثهم ويحاضرهم ويعلمهم فيه اساليب الانتحار فانتحر رضا الغسرة وأصدر الاشتر منتشيًا بدم الغسره المنتحر بيانًا يرثيه فيه، فقهقه كبيرهم هناك وهو يتحسّس ويتلمس خنجره المدسوس تحت عمامة «قم».
وقلعة الموت في «قم» كما الضبعة تلغ في الدماء.. تنغذى بها، فإن لم تجد دما نحرت قربانا وما اكثر القرابين التي نحرتهم «قم» فانتحروا كما انتحر رضا الغسرة ملبيًا شهوة الدم في «قم» عند الاشتر الصغير.