النسبية التي لا تشبه لبنان!/محمد قواص

4521
‘تغيير النفوس قبل النصوص’ لا يمكن أن ينجز في أجواء الدفع لترويج العصبية المذهبية كأساس أول للعمل السياسي.

لا يدور الجدل حول القانون الانتخابي في لبنان بين اللبنانيين أو بين طوائفهم. الأمر ورشة تناتش داخل الطبقة السياسية اللبنانية التي تهيمن على لبنان وطوائفه بغية الدفاع عن مناعة هذه الطبقة ومنع اختراقها وكسر هيمنتها التاريخية بعذر تمثيل المذاهب المتعددة والمشارب المتعارضة.

بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري خاضت هذه الطبقة السياسية حرباً دموية داخلها أطاحت شظاياها بالأبرياء في ساحات ذلك الصدام. تنتمي سلسلة الاغتيالات ومحاولة الاغتيال إلى لحظة صدام تاريخي هدفه تحديد هوية البلد السياسية وطبيعة امتداداته في العالم. امتلك القتلة فوقية في فرض أدوات النزال على طريق فرض هيمنة جديدة ونهائية توقّع بالدم والخوف والإرهاب.

تعددت أسماء القتلى ومحفزات القتل. لكن توقف المقتلة (أو تعليقها مؤقتا) يعكس قناعة أن إبادة الخصم مكلفة لم تثبت نجاعتها، وأن الفسيفساء التي تتشكّل منها الكينونة اللبنانية تستبطن مناعة تحيل السعي إلى فرض اللون الواحد مسألة عصيّة ما زال اللبنانيون، وربما عواصم العالم معهم، يحولون دونها. ولئن فشل التذابح في الإخلال بموازين القوى، فإن مقاومة تجري حالياً لعدم الاخلال بها تحت عنوان البحث عن القانون الأمثل للانتخابات.

يتأسس النقاش حول الأمر على الزعم بالدفاع عن التمثيل الأفضل للبنانيين. هذا في الشكل. أما في المضمون فإن الجدل يدور حول سبل تعظيم حصص تيارات سياسية تحت سقف البرلمان وتقزيم حصص تيارات منافسة. بمعنى آخر فإن تحسين تمثيل اللبنانيين ليس الهدف الأسمى الذي ترومه زعامات الطوائف، بل إن المناورات الراهنة تصبو إلى تمتين إطباق تلك الزعامات على مسار ومصير طوائفها بمقاربة تضعف تماس المذاهب وضمور تلاقحها المتبادل.

قامت فلسفة اتفاق الطائف على توسّل السبل لإخراج البلد، يوما ما، من الطبيعة الطائفية لنظامه السياسي، وبالتالي تحرير السياسة من براثن العصبيات المذهبية التي لا تنتهي. وإذا ما كان الاتفاق الذي أنهى احتراب اللبنانيين توخى عملية انتقالية طويلة الأمد “تغير ما في النفوس قبل تغير النصوص”، على حد تعبير البطريرك الماروني السابق نصرالله بطرس صفير، فإن “الطائف” حرص، بعبقرية لافتة، على توفير أدوات تجعل من الاستقرار بين اللبنانيين أمرا سابقا على عملية تمثيلهم، لا بل أوحى بأن خرائط التمثيل وجب أن تخضع دائماً لثابتيْ الاستقرار والسلم الأهلي.

يذكر الزعيم الدرزي وليد جنبلاط ان اتفاق الطائف لم يأتِ على ذكر النسبية كخيار لتمثيل اللبنانيين. قد يكون في ذلك التذكير ما يلفت إلى أن المشرعين كانوا يدركون استحالة انتاج تمثيل تصحيح وفق نسبية تنتصب من داخل النظام الطائفي. قد يكون من مصلحة الزعيم الدرزي أن يسلط الضوء على جانب أساسي من “الطائف”، فيما من مصلحة الفرقاء الآخرين إغفال ذلك الجانب والإدعاء بعدم إدراك الفلسفة الجوانية لهذا الاتفاق. لكن الواضح، من سياق المواقف المحيطة بمسألة القوانين المقترحة، أن هناك خللا قد يحول دون تعايش “التمثيل الصحيح” مع الاستقرار الصحيح.

لا يبدو دفاع المدافعين عن النسبية المطلقة في لبنان ينطلق من حرص على محض لبنان بنظام تمثيل حديث، كما لا يبدو رفض الرافضين للنسبية المطلقة تبرع للتصدي لمفاعيل فائض السلاح على المشهد البرلماني. يتلخص الأمر في التناطح لنحت المدينة الفاضلة داخل منطقة تتبدل داخلها خرائط المدن وهوياتها.

قد لا يكون مطلب إلغاء الطائفية السياسية هدفاً عاجلاً للأقليات في لبنان. فإذا ما كان اللبنانيون جميعا يتوزعون على أقلياتهم بحيث يصعب أن تفيض الطوائف بعضها على بعض، فإن من مصلحة المسيحيين والدروز وغيرهم الإحتماء بالطائفية السياسية ليس دفاعاً عن مشاركتهم في السلطة والثروة في البلاد فقط، بل صوناً لوجودهم الكلي في عصر الهوس التسلطي الذي قد ترتكبه الأغلبيات. وربما قد يكون من الحكمة أن لا تتذاكى تلك الأقليات بالانخراط في ورشة النسبية المطلقة التي ستستفيد منها هوامش الأغلبيات ومتطرفيها، وهم شريحة لا تؤمن بالطائف ولا بالاقليات ولا بمبدأ المناصفة الشهير.

تستفيد الثنائية الشيعية المتمثلة بحزب الله وحركة أمل من أي قانون للانتخابات في لبنان. سبق لأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله أن تفاخر بذلك واثقا من أن أصوات الشيعة تصبّ طوعاً لصالح تمثيل “المقاومة”، بالتالي فإن سعي “الحزب” و”الحركة” لتوطيد حظوظ النسبية لا يهدف إلى تحسين تمثيلهما داخل الندوة النيابية، بل تقويض تمثيل التيارات المنافسة التي أخذ الصدام معها أطوراً عنيفة دموية قبل ذلك.

من جهتها تتبرع الثنائية المسيحية المترجلة منذ “ورقة النوايا” بين “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية” للدفع بعجلات النسبية علّها تحسّن شروط السيطرة التي يسعيان لها داخل الفضاء المسيحي من جهة، كما الدفع بسيناريوهات إعادة رسم الدوائر الانتخابية بما يحرر المرشحين المسيحيين من أصوات غير المسيحيين من جهة أخرى. وفي هذه الورشة التي ينتهجها الحزبين المتوافقين في الراهن والمتناقضين جداً في السابق إرهاصات تنافر مع تيار المستقبل الحليف “التاريخي” للقوات وأعراض تناغم مع حزب الله الحليف “التاريخي” للتيار.

مما يتسرّب من المواقف تنكشف غبطة الضعفاء داخل طوائفهم، الذين لطالما ارتبطوا بمعسكر 8 آذار المتحالف مع حزب الله ودمشق، من الفرص التي قد توفرها النسبية لمستقبلهم السياسي. تبدو النسبية مشروع لإضعاف الأقوياء باختلاق قوة للضعفاء. وفيما كانت بعض العقائد تبشّر بتحالف الأقليات، يبدو أن التحالف مع الضعفاء أضحى أكثر إغراء لإزاحة خصوم وتنقية الأفق من أي اعتراض.

وقّع اللبنانيون على اتفاق الطائف عام 1989 في ظروف عسكرية فرضت هزيمة للتيار المسيحي المقاتل آنذاك، وفي ظروف تاريخية مختلفة عن تلك أيام الإستقلال لجهة تراجع الحجم الديمغرافي المسيحي مقابل تنامي ذلك المسلم. اتفق المؤتمرون مع ذلك على تثبيت الدور المسيحي دستوريا من خلال تثبيت المناصفة داخل مجلس النواب ومن خلال تثبيت الحضور المسيحي الذي يميّز لبنان عن محيطه ابتداء من رئاسة الجمهورية مرورا بمواقع الفعل والقرار داخل مؤسسات الدولة. مثّل أمر ذلك مطلباً حرص المسلمون قبل المسيحيين على إدراجه في النصوص، بما يوحي بالوعي المشترك بفكرة لبنان بغض النظر عن وقائع الأوزان والقوة والنفوذ في لحظة معينة من تاريخ البلد.

“تغيير النفوس قبل النصوص” لا يمكن أن ينجز في أجواء الدفع لترويج العصبية المذهبية كأساس أول للعمل السياسي في لبنان. كما لا يمكن تسريع تنفيذ اتفاق الطائف الذي شوّهت مفاعيله أجندات الوصاية السورية في لبنان، من خلال المهارة في العمل من أجل تعظيم تمثيل الطوائف دون أي سعي لتماهي هذه الطوائف واختلاطها. كما أن اشتداد الخطاب المطلبي الطائفي المتأسس على “مظلومية” الأقليات يستدرج تنامي خطاب مطلبي متشدد، بدأنا نتلمسه ونقلق من ترعرعه، يتأسس على “مظلومية” الأغلبيات الذي لا يؤمن بتعايش ولا يهضم محاصصة ومناصفة وأي خرائط تعايشية أخرى.

ليس مهماً أن تحصل أقلية على التمثيل الصحيح فيما ينخفض تمثيل أقلية أخرى، كما أنه ليس من الفطنة أن تتالى مشاريع “التمثيل الصحيح” من حسن تمثيل أغلبية معينة في البلد، ناهيك عن أنه من السذاجة أن لا يستشرف دعاة النسبية المطلقة مآلات ذلك داخل الخرائط اللبنانية ومدى اتساقها أو تعارضها مع أجندات هذا الطرف أو ذاك مع ما يرسم في المنطقة برمتها.

حري التذكير بأن المسألة لا تتعلق بتمثيل الطوائف بالمعنى الرومانسي بل تتصل بحجم وأوزان التيارات التي تتحكم بتلك الطوائف. بمعنى آخر فإن شعور هذه الإطراف بأن هناك أجندات للنيل من حضورها وشراكتها سيتداعى خللا داخل الاستقرار اللبناني وهو ما يتنافى مع ما يتوق إليه اللبنانيون وما مع يوحي به عبق “الطائف” العتيق.

الحداثة المطلقة أن تلغى الطائفية السياسية بشكل مطلق في لبنان، فهل من جريء يقدم على ذلك؟ فليخبرنا أنصار النسبية ويزيدونا علماً.

نقلا عن:میدل ایست اونلاین