يعيش الملايين في كوريا الشمالية في فقر وعوز، بل يتضورون جوعًا منذ سنوات بحسب المسؤولين الذين تمكنوا من الفرار من آخر قلاع الماركسية إلى الشطر الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية. هؤلاء المساكين لا يجدون قوت يومهم وإن كان هذا القوت مجرد لفائف من «النودل» والبصل الأخضر التي اعتاد فقراء الشرق الأقصى على طبخها في مياه مغلية كوجبات يومية. يحدث هذا في الوقت الذي يعيش فيه دكتاتورهم الستاليني «كيم جونغ أون» حياة رغيدة مترفة، ويتناول أفخر أنواع الحلوى، والنبيذ والجبن الفرنسيين، وأطعمة دسمة من كل لون وصنف، إضافة إلى التدخين بشراهة، الأمر الذي ساهم في زيادة وزنه، وتورد خديه، وتورم جفنيه، وبما قرع معه أطباؤه ناقوس الخطر من احتمال إصابة فخامته بالأمراض الخطيرة، وبالتالي احتمال وفاته مبكرًا، علما بأن «كيم» بالكاد قد تخطى الثلاثين.
وهكذا فإن كوريا الشمالية التي عودتنا على إطلاق الصواريخ الباليستية، وإجراء التجارب النووية المهددة لأمن واستقرار محيطها الإقليمي، تطلق هذه الأيام صواريخ التحذير والخوف على صحة «القائد المبجل» و«شمس شموس الأمة». فصحته وحياته هما الأهم، أما صحة وحياة مواطنيه فلا قيمة لهما اطلاقًا لأن الفرد في الدول والأنظمة الشمولية جزء من سقط المتاع، وسواء عاش أو مات فإن الأمر سيان.
مؤخرًا انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي صورة للقائد «المبجل» وخلفه عدد من ضباطه المرصعين بالنجوم والرتب النحاسية والمرتدين للقبعات العسكرية الضخمة على النمط السوفياتي البائد وهم يتجولون داخل مطبخ في مكان ما من بلادهم التعيسة، متفحصين لسلال وأوعية ضخمة تحتوي على أسماك وسلطات ودجاجات وخضروات متنوعة طازجة يعتقد أن أطباء الصبي «كيم» أوصوا بها كطعام صحي بديل له بهدف الحفاظ على صحته والحيلولة دون تدهورها من جراء نهمه للأطعمة الدسمة غير الصحية.
فطبقًا لـ «هينغ سو كيم» وهو باحث كوري شمالي تمكن في عام 2009 من الفرار بشق الأنفس إلى الخارج فإن فريقًا طبيًا مكونًا مما لا يقل عن 130 طبيبًا من خيرة الأطباء المتخصصين في التغذية من أولئك العاملين في مختبرات جامعة «كيم إيل سونغ» قد تم تجنيده للعمل ليل نهار وسط تكتم وحراسة مشددة بهدف وضع برنامج غذائي صحي لحماية القائد «المبجل».
والحقيقة أنه على الرغم من صدور بيانات رسمية من قبل سلطات بيونغيانع تنفي فيها الأخيرة، كالمعتاد، الأخبار المتعلقة بصحة زعيمها وتصفها بـ «الأراجيف الامبريالية» فإن المصادر الرسمية والصحفية في كوريا الجنوبية التي تراقب الأوضاع في جارتها الشمالية عن كثب على مدار الساعة كررت منذ الصيف الماضي احتمال أن يكون «كيم» مصابًا بأمراض النقرس والسكري وارتفاع ضغط الدم، مشيرة في هذا الصدد إلى صوره وهو يعرج أثناء الاحتفال بالذكرى العشرين لوفاة جده المؤسس «كيم إيل سونغ» في يوليو 2014، ناهيك عن تكرر غيابه في أكثر من احتفال سياسي وحزبي، وعدم ظهوره لمدد طويلة على شاشات التلفزة، هو الذي لم يكن يترك فرصة إلا ويطل فيها على شعبه رافعا شعارات أكل عليها الدهر وشرب، ومتوعدًا خصومه بالويلات.
وكي نكون منصفين فإن الصبي الحاكم في بيونغيانغ ليس وحده الذي يمارس الظاهرة المخجلة المتمثلة في ترك شعبه فقيرًا جائعًا، بينما يستاثر وحده بخيرات ونعيم بلده. فهذا ديدن كل قادة الدول ذات الأنظمة الشمولية القمعية وما في حكمها عبر التاريخ، إبتداء من نيرون روما وانتهاء بطغاة طهران وبغداد ودمشق الحاليين، وإن اختلفت التفاصيل.
والسؤال هو هل يستطيع الديكتاتور الكوري الشمالي الاقلاع عن عاداته الغذائية السيئة، أم يتمسك بها بغرور وعنجهية كتمسكه بتصرفاته السياسية العبثية التي عودنا عليها؟ ذلك أنه لم يعرف قط عن «كيم» أنه أخذ بنصائح قادته ومستشاريه العسكريين المقربين، بل لم يثبت أن هؤلاء تجرأوا فأجبروه على اتباع مقترح ما، لأن مصيرهم في هذه الحالة هو القتل بمدفع رشاش على غرار ما فعله «كيم» في ديسمبر 2013 مع زوج عمته الجنرال «جانغ سونغ تايك» عقابًا له على مزاعم بالفساد واستخدام المخدرات والتآمر ضد النظام والإضرار باقتصاد البلاد، أو الإعدام بمدفع مضاد للطيران كما حدث في ابريل 2015 لوزير الدفاع السابق «هيون يونغ شول» الذي اتهم بالتقليل من احترام «القائد الفذ» بسبب إغفاءاته خلال إلقاء «كيم» لخطبه العنترية. وبعبارة أخرى فمن كانت هذه حالته لا ينتظر منه الاستجابة لنصائح مجموعة من الأطباء، وإن كانوا من المتخصصين. ففخامته هو الأعلم بكل شيء، وعلمه لا يدانيه علم أي من مواطنيه.