برحيل المفكر السوري صادق جلال العظم، فقد الفكر التنويري، احد اقطابه المتميزين «العظم المؤمن بتغيير الحياة وتجديدها، خاض صراعًا طويلاً ضد الانظمة السياسية المستبدة، والتيار الذي يدعو الى الغيبيات، ويرفض التأقلم مع التطور الحضاري، ويدعو الى كل ما ينتجه التأسلم من ثقافة اساسها العودة الى القرون الوسطى!!
وهو ما تسبب في محاكمته عندما انتقد في كتابه «نقد الفكر الديني» الذهنية الغيبية التي ترى هزيمة 1967 تعود الى القدر، من اجل، ان يؤسس لحجج علمية، ومنطق علمي يكاشف الواقع العربي المتخلف.
ومن هنا، راح العظم، عبر سجالاته العلمية ووعيه المستنير، يناقش ظواهر الفكر والوعى، ويصوغ رؤية علمية واعية، يبصر على ضوئها حقائق، تدحض الفكر الاقصائي التكفيري، وهو ما ناقشه في كتابه «ذهنية التحريم» الذي خصص في جزئية منه مناقشة المثقفين العرب حول رواية «آيات شيطانية» للروائي سليمان رشدى الذي طالب الخميني وقتذاك باهدار دمه!
ما يميز العظم، فكره النقدي الذي تفيض منه الواقعية، والتحليل العلمي الذي لا يقف عند حدود سطح الظواهر، بل يغوص في اعماقها، لاعتبارها متصلة بالواقع المادي، لا بعالم الغيبيات والافكار المثالية المطلقة.
ومن هنا كان العظم اكثر تعبيرا عن تجليات العقل في ظل علاقة الفكر بالواقع وفي اطار العلاقة المادية التاريخية.
ولذلك تكوّن مشروعه النظري، في نظر الكاتبة التقدمية فريدة النقاش من الاسس الكبرى للمادية الجدلية التاريخية التي طورها الماركسيون عبر اجيال، وصولاً الى الماركسية التحليلية، وتدلنا القراءة المتأنية لكتب وابحاث هذا المفكر على ان معرفته بتراث امته في شمولها وتوجهها النقدي، هي اعمق بكثير جدا من معرفة هؤلاء المتاجرين بالدين الذين كفروه وقدموه للمحاكمة وطاردوه حتى آخر الدنيا ليموت في الغربة، وفي هذه الغربة جرت ترجمة كتبه لعدة لغات.
لم يكن صراع العظم مع الانظمة والفكر والمثالي صراعًا سطحيًا، بل كان صراعًا متقدًا بالنقد، للدفاع عن حرية الفكر والتعبير والاعتقاد. وفي اطار هذا المناخ رفع صوته عاليًا ضد الرؤى التي جعلت من النص لا العقل مقياسًا للحقيقة، ولم يتراجع قط عن كشف زيف الاقنعة وازدواجية الموقف للذين يقدمون تبريرات لقوى الظلام والارهاب. لم تكن اعمال العظم معزولة عما يجري في البلدان العربية والعالم من تحولات سياسية واجتماعية وفكرية. وتقديرًا لمساهماته الفكرية، ودفاعه عن قيم الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الانسان منحه معهد غوته جائزته «ميدالية غوته» عام 2015 وجائزة «ليوبولد لوكاش» للتفوق العلمي عام 2004.
وعلى اثر هذه المناسبة اجرت (قناة DW عربية) الالمانية معه مقابلة تحدث فيها عن الازمة السورية داعيًا الى ضرورة «ارساء حكم مدني محايد دينيًا ومذهبيًا في سوريا، ولا يفرض دين الاكثرية على احد».
في حين اكد ان المجتمع الدولي ترك النزاع في سوريا يطول ويتعسكر، معتبرًا ان عزوفه عن مساعدة الشعب السوري في البداية خلق فراغًا ملأته الجماعات الاسلامية المتطرفة، المرتبطة بالقاعدة وعن مقولة «الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقى التوأمان» يقول: اعتقد ان عصرنا الحالي تجاوز مسألة شرق – غرب ومشكلاتها وتناقضاتها. في حياتنا الراهنة حضارة واحدة عمليًا بصفاتها وخصائصها وتطلعاتها الكلية في كل مكان تقريبًا، وتندرج تحتها وضمنها تشكيلة هائلة من الثقافات واللغات والتراث والمجتمعات بخصوصياتها المتميزة والمتمايزة وامزجتها الفردية وحميمياتها المغروسة.
كتب الكثير عن رحيل المفكر العظم، ومن جملة ما كتب ان اصدرات العظم بعد كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة» خلخلة الابنية الفكرية الهشة. وفي مقابل ذلك وبقدر ما وضعت هذه الكتب مثل«نقد الفكر الديني» و«ذهنية التحريم» وغيرها العظم على قائمة التنويريين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين فانها جلبت له «العظم» مشاكل اجتماعية وسياسية اذ فصل وسجن ومنع هكذا يقول الكاتب حمزة مصطفى، وهكذا تطارد فتاوى الاسلام السياسي المتطرفة بالتواطؤ مع بعض اجهزة الحكم مفكري الحداثة والنهضة الذين واجهوا الاضطهاد الفكري والسياسي.
وفي مقدمتهم نجيب محفوظ، فرج فودة، نصر حامد ابوزيد، حسين مروة، مهدي عامل، فاطمة ناعوت وغيرهم ممن تصدوا لحملات التكفير والارهاب من اجل الحداثة والديمقراطية.
هل يمكن لمجتمعاتنا العربية ببنيتها ومنظومتها الراهنة انتاج ديمقراطية حقيقة تعيش وتستمر دون ان تخلق انقسامات وازمات سياسية واضطرابات امنية وصراعات وحربًا اهلية..؟
سؤال يجيب عليه العظم قائلاً: يجب علينا ان ننطلق من حقيقة مفادها ان اي مجتمع في الاساس غير مؤهل للديمقراطية بشكل طبيعي، الديمقراطية هي عملية تراكمية تاريخية ومن الخطأ ان نأخذ موقفًا تعجيزيًا بانه طالما نحن عشائريون قبليون طائفيون فعلينا الغاء فكرة الديمقراطية برمتها ونقول انها لا تناسبنا وينبغي ان نغلق الباب امامها. في الصين يقولون رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.