إذا ما كان العالم غافلا عن الدينامية التي باتت سمة المجتمع السعودي، فحري بالسعودية والسعوديين إظهار تلك الدينامية، وتقديمها منتجا عضويا بات من ضمن الشخصية السعودية في عالم القرن الحادي والعشرين.
من حقّ وزير الخارجية السعودي عادل الجبير أن يندد بتصريحات بعض المرشحين للانتخابات الرئاسية الفرنسية التي تتهم بلاده بتمويل التطرف الإسلامي، لا بل من واجب الوزير أن يفعل ذلك، ومن الغرابة التأخر في الرد على ذلك. وإذا ما كانت هذه الاتهامات تساق ضد المملكة في فرنسا وفي دول أوروبية أخرى، فإن الأمر يستحق من المراقبين عامة، ومن السعودية خاصة، البحث عن العلّة التي تجعل السمعة السعودية مشوّهة، بحيث يُستسهل كيل الاتهامات للسعودية من قبل معلقين أو صحافيين، وخصوصا من قبل مرشحين للمناصب السياسية في سعي لتكبير غلال قطاف أصوات الناخبين.
الظاهر أن الأمر بات مقلقا للسعودية إلى درجة أن يفجّر وزير الخارجية السعودي الأمر في باريس في ما اعتبر هجوماً مضاداً للرد على ما أضحى من السلوكيات العادية لتيار سياسي وفكري في العالم الغربي. والظاهر أيضا أن الرياض التي تعايشت في العقود الماضية بين أصل التحالف مع الدول الغربية، وفرع اتهامها بالتطرف ودعم الحركات الجهادية من قبل أوساط داخل هذه الدول، لم تعد تحتمل أمر ذلك، وأن الدبلوماسية السعودية ترفع الصوت عالياً لوقف الحملات التي باتت روتينية لا مخاطر لها.
تتيح المناسبة الفرنسية فتح النقاش حول الصورة السيئة التي تتسلل من خلال الإعلام الغربي عن المملكة. تتناول الدعاية المعادية أمور المملكة من زاوية نمطية لا تأخذ بالاعتبار التغيرات السياسية والاجتماعية داخلها، ولا تعير اهتماما للأذى اللاحق بالسعودية والسعوديين من جراء الإرهاب، سواء الذي كان يحمل هوية إيرانية واضحة سابقا، أو ذلك الذي ارتبط بتنظيمي القاعدة وداعش لاحقا ولا تهتم بالإسهامات الكبرى في مكافحة الإرهاب ورده عن الكثير من المدن الغربية باعتراف عواصم هذه الدول.
قد تكون لاتهام السعودية بالتطرف الديني أو رعايته فقهيا ومالياً أجندة معادية وخبيثة. وقد تكون تلك السمعة الملتبسة مطلوبة داخل أوساط السياسة الغربية من أجل رفع مستوى الضغوط التي تمارسها العواصم من أجل تأقلم سياسة الرياض مع أجندات تلك الدول في السياسة الخارجية، وما يتمنونه من دور أو لا دور للرياض.
وقد تكون هذه الحملات جزءا من عدة الشغل الضرورية لابتزاز المملكة من أجل المزيد من العقود في عالم التجارة والمال والاقتصاد والاستثمار. ومهما تعددت أغراض المغرضين فإن على الرياض أن تدلي بدلو شفاف وحازم وصريح في مواجهة ما بات من مسلمات نظرة هذا الغرب إلى هذا الشرق.
في خطابيْ المرشحين للرئاسة الفرنسية، فرانسوا فيون ومارين لوبن وربما غيرهما، المعادي للسعودية (ودول خليجية أخرى) ما هو استكمال عضوي لخطاب المرشح دونالد ترامب أثناء حملته للانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. وكأن مرشحي هذا العصر، في هذه الدولة أو تلك، وبمناسبة الحديث عن التطرف والإرهاب، وفي معرض الإطلالة على مسألة مكافحة تنظيم داعش، يكتشفون وصفة سحرية لها وقع مثمر لدى العامة تقتضي، في موسم التشابك والضبابية واللبس التي تصاحب حكايات الإرهاب، العثور على متهم سهل الملامح لإلباسه آثاما تدفع ببضعة آلاف من أصوات الناخبين داخل صناديق هذا وذاك وتلك.
لم يعد دونالد ترامب الرئيس يتحدث عن السعودية ودول الخليج كما كان يتحدث أثناء حملته الانتخابية. الحملة الانتخابية وما تحوزه من ضجيج شعبوي أجوف تستدعي أي كلام، فيما موقف الرئاسة المتأسس على واقع هذا العالم ومصالح الولايات المتحدة في هذا العالم لا يحتمل أي كلام.
انطلاقا من هذه القاعدة سيعيد المرشحون هنا وهناك مراجعة خطابهم المعادي للسعودية حين يسدل الستار على الحملات الانتخابية. لكن ذلك لن يمنع استمرار الحملات التي تشتعل من وقت لآخر، بسبب ودون سبب، لكي تتناول شؤون السعودية بنظرة فوقية ناقدة مخصّبة بالكثير من التأنيب، محشوّة بكمّ من النصائح والوصفات العلاجية. وعليه وجب على السعوديين أنفسهم الوقوف ملياً على هذه الظاهرة التي لا تنتهي، والاجتهاد لاجتراح مخارج وحلول تضع حداً لما بات يعتبره السعوديون قدراً وجب التعايش معه.
بات واضحاً أن شبكة العلاقات التي تملكها الرياض داخل العواصم الغربية الكبرى لا تقف سداً أمام الهجمات ضد المملكة، وغير قادرة على تغيير الصورة النمطية التي تُحقن داخل الرأي العام عن مشهد متقادم يجري تكراره.
والأمر قد لا يكون سببه عدم قدرة اللوبي السعودي – الخليجي على الفعل، بل لأن شبكات النفوذ هذه غير معنية بالقيام بهذه المهمة مكتفية بالروابط التي تمدها بين أصحاب القرار داخل الطرفين في مجالات السياسة والأمن و“البزنس”. ولن يكون غريبا الاستنتاج أن هذه اللوبيات مستفيدة من تراجع السمعة السعودية لدى المنابر العامة لما يؤمنه ذلك من ديمومة لمصالح عتيقة باتت أصيلة متوارثة في علاقات الرياض والعالم.
قد يكون جديرا بأصحاب القرار في السعودية مقاربة الأمر برؤية حديثة مختلفة تتسق مع الرؤى التي أطلقتها القيادة السعودية في ميادين شتى. وقد تجوز بهذه المناسبة المقارنة بين وقع إيران والسعودية داخل الرأي العام الغربي متمثلا بالصحافة ومواقف السياسيين، لكي نلحظ أن الكفة تميل لصالح إيران على الرغم من الانتقادات التي توجّه ظرفيا ضد طهران في معرض تناول هذا الملف أو ذاك. وفي أمر هذه المقارنة ما يدعو إلى مراجعة في متن وهامش المقاربات والأدوات المستخدمة، سواء في بنيتها الاستراتيجية الطويلة الأمد، أو تلك التكتيكية التي تحاكي ظروف الزمان والمكان وخصوصياتهما.
وفيما أحد جوانب الانتقادات الغربية الموجهة للسعودية تتناول أسلوب العيش الاجتماعي الثقافي، فإن ذلك، ورغم كونه خصوصية تتعلق بتقاليد الشعوب ومعتقداتهم، يأتي من ضمن اتهام هذا الغرب لهذه التربية والثقافة ولتلك التقاليد في هذا البلد بأنها وراء تطرّف يصيب المنطقة ويتسلل نحو العالم.
على أن إحجام الأبواق المعادية عن إبراز مستويات العلم والانفتاح والتسامح التي تحققت في المملكة على مدى العقود التي حملت آلاف من المبتعثين السعوديين إلى الجامعات الغربية، فذلك إما اتّساقا مع صورة التطرف التي يراد لها أن تلتصق بسهولة بهذا البلد، وإما لأن المملكة نفسها لم تحسن التسويق، داخل هذه الدول (وليس فقط في الداخل السعودي) لإسهامات الأمر في إحداث تطوّر نوعي مجتمعي لافت داخل المملكة.
في ذلك أن الصورة التي تميّز بلدا ما في العالم تستند إلى مجموعة من الرموز الشكلية المعبرة عن مضمون عميق داخل مجتمعات هذا البلد. فإذا ما انحشر التحليل الغربي لشؤون السعودية في ما هو نمطي يتعلق بدور المرأة والقوانين المشرّعة لحضورها، وصولا إلى مسألة قيادتها للسيارة على سبيل المثال، فإنه بات مطلوباً الإقدام على ما يخلّص ما هو رمزي من أثقال تعيق تحرره داخل المسرح الدولي.
والأمر ينسحب على جوانب تتعلق بظواهر مجتمعية أخرى تعكس تضامنا وتسامحا وانفتاحا وجرأة وتواصلا مع عالم هذا اليوم، والتي يتم وأدها وفق قوالب تقليدية تعيق إطلالة العالم عليها، على الرغم من التواصل المستمر الذي لم ينقطع بين السعودية والعالم، وعلى أعلى المستويات، تبعاً لحاجات الثورة النفطية والأنشطة الاقتصادية التابعة. أما إذا كان أمر تنقية سمعة البلاد يحتاج إلى معالجة ظواهر ماضوية تنتمي إلى عصور غابرة، فربما بات مطلوبا اتخاذ قرارات تاريخية، تأجّلت قبل ذلك، للتخلص مما بات في أحيان كثيرة لا يشبه المملكة اليوم ويستفيد بقاؤه من حالة التغافل واللاقرار.
والمفارقة أن السجالات التي تشهدها السعودية داخل صحافتها وعلى شاشات الفضائيات تتسم بشفافية وجرأة في الاعتراف بالعلل والتوق لعلاجها. إلا أن ذلك الجدل الخلاق لا يلحظه الرأي العام الدولي. فإذا ما كان العالم غافلا عن الدينامية التي باتت سمة المجتمع السعودي، فحري بالسعودية والسعوديين إظهار تلك الدينامية، وتقديمها منتجا عضوياً بات من ضمن الشخصية السعودية في عالم القرن الحادي والعشرين.
لا تقوى الحملات الغربية المغرضة أن تشتغل سلبا على الملف السعودي إذا ما كانت للمملكة أجوبة شفافة واضحة حاسمة في ما يتعلق بشؤونها. وسيسهل على هذه الحملات العبث بما هو ضبابي ملتبس يسهل الاجتهاد بشأنه. من حقّ السعودية الدفاع عن تقاليدها وثقافتها وأسلوب العيش فيها، فتلك أبجديات لا نقاش فيها، لكن من حقّ السعودية والسعوديين أيضا التوجه إلى العالم بما يكتنز هذا البلد ومجتمعه من شخوص وظواهر ومعالم تحاكي لغة العصر وتبرع فيها.
فإذا كان وزير الخارجية السعودي مصيباً في رفع الصوت، مدافعا عن بلاده، مُدينا من ينال من سمعتها، فإن أمر ذلك يجب أن يتواكب مع خطط استراتيجية كبرى تطيح ببلادة المقاربات السابقة في هذا المضمار، لنقل المملكة إلى ما يتناسب مع رؤى 2020 و2030 التي تستبطن عزماً في الانتقال بالسعودية من عهد إلى آخر، ومن عقلية تقليدية حكمت البلد في السياسة والاقتصاد والمجتمع، إلى آفاق جريئة متقدمة تفاجئ السعوديين أنفسهم، فلماذا لا تفاجئ العالم؟
صحافي وكاتب سياسي لبناني