لم يكن هدف ثورة الشعب الإيراني عام 1979، إيصال رجال الدين إلى السلطة، ولم يرغب المواطن الإيراني البسيط في استبدال التاج بالعمامة، بل تحرك الشارع الإيراني في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي للتخلص من نظام الشاه الديكتاتوري وجهازه الأمني المتمثل في جهاز “السافاك”، الذي أرعب الإيرانيين لأكثر من عقدين من الزمن.
لم يدرك ذلك المواطن البائس أنه بوصول الملالي إلى السلطة كمن “طافَ يَبْغِي نَجْوَة مِنْ هَلاَك فَهَلَكْ “، كما يقول الشاعر.
فجهاز “السافاك” كان يسوم الناس أشد العذاب، وشكل شبحا مرعبا يطارد الإيراني في نومه ويقظته.
وكانت شعارات رجال الدين قبل الثورة وأوائل أيامها، تتحدث عن مستقبل مشرق وعادل للشعب الإيراني، بشعارات دغدغت وجدان كل مواطن ومشاعره جعلته يرسم أحلاما لمستقبل أكثر عدلا وأمنا وأقل بطشا وديكتاتورية.
إلا أنه سرعان ما استيقظ من ذلك الحلم الجميل، على واقع أكثر دموية من سابقه ويوما تلو الآخر أصبح يبكي، سرا أو جهرا، على ماض توقعه الأسوأ حتى جرب ما هو أشد سوءا منه.
تفوق التلميذ
فما إن استقر الأمر لرجال الدين بقيادة الخميني، حتى شعر المواطن أن النظام الجديد لم يتخلص من الإرث الديكتاتوري للنظام السابق، بل عمل على تبنيه وتطويره حتى تغلب التلميذ على أستاذه، باعتماد مقصلة الإعدامات حتى بلغت إيران المركز الثاني عالميا، من حيث عدد حالات الإعدام حول العالم.
والإعدامات في إيران سياسية وغير سياسية وهي مستمرة منذ انتصار الثورة عام 1979، مرورا بمجزرة المعارضين مع نهاية الحرب العراقية – الإيرانية، وصولا إلى إعدامات العامين الماضيين التي أظهرت وجها آخر للحكومة الجديدة برئاسة حسن روحاني التي توصف بالإصلاحية والمعتدلة، مقارنة بسلفه محمود أحمدي نجاد المحسوب على التيار الأصولي المتشدد.
بعبارة أخرى، تظهر الإعدامات السياسية واستهداف الأقليات في عهد روحاني، أكثر ضراوة وأشد بطشا من عهد أحمدي نجاد، وهذا يتعارض مع الصورة التي تحاول الحكومة الحالية أن ترسمها لنفسها أمام العالم وأنها تختلف عن سابقتها على المستويين الداخلي والخارجي.
لقد تم وضع بصمة الإعدامات على جبين النظام الجديد في إيران منذ ولادته في 1979م.
فهناك أمثلة كثيرة جدا للإعدامات في إيران جعلت كثيرا من الناشطين في حقوق الإنسان حول العالم يعبرون عن قلقهم الشديد والمتزايد تجاه الانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان في إيران، إلا أن النظام غالبا ما يضع هذه العقوبات في إطار تهم “محاربة الله ورسوله”، “التآمر على الثورة” أو “الإفساد في الأرض”.
اغتصاب العذارى
من التصرفات المعيبة للنظام الإيراني تجاه من ينفذ بحقهم الإعدام، وتم رصدها وتوثيقها، اغتصاب الفتيات العذارى قبل إعدامهن.
فقد تحدثت عدة مصادر وشخصيات كانت مقربة من النظام الإيراني عن هذه القضية، وقالت نظرا لأن هناك اعتقادا في الإسلام (الشيعي) بأن الفتاة تدخل الجنة إذا ماتت وهي عذراء، فقد آثر النظام العقد عليهن “متعة” من قبل أعضاء الحرس الثوري، وبعد اغتصابهن يتم تنفيذ حكم الإعدام بحقهن حتى لا يدخلن الجنة.
مجزرة1988.. رقم حيّر الخبراء
بلغت الإعدامات في عامي 1984 و1985 نحو 500 و470 حالة على التوالي، وهذا المعدل استمر في العامين التاليين أيضا. أما عند الحديث عن مجزرة عام 1988، فهناك تفاوت كبير في الأرقام التي تتحدث عن الإعدامات السياسية الجماعية التي شهدتها إيران أواخر الثمانينات من القرن الماضي، حيث تتأرجح هذه الأرقام بين ألف كحد أدنى و12 ألفا في الحد الأقصى، بينما تحدثت بعض التقارير عن أن الرقم قد تجاوز 30 ألفا.
وأعلنت منظمة العفو الدولية قائمة تتحدث عن قرابة 2500 شخص تم إعدامهم آنذاك في إيران، فيما نشرت منظمات حقوقية أسماء ما لا يقل عن خمسة آلاف شخص. عموما، يدل هذا التباين في الأرقام على أن حالات الإعدام كانت كثيرة للغاية، مما يصعب رصدها بشكل دقيق.
في عام 1988 ارتكب النظام الإيراني مجزرة بشعة ضد المعارضين السياسيين، حيث تم إعدام الآلاف منهم، خاصة المنتمين إلى منظمة مجاهدي خلق. وفي هذا الصدد، يذكر حسين علي منتظري (الذي كان نائبا للخميني قبل أن يغضب عليه ويقيله من منصبه) في مذكراته رقما يبلغ نحو 3500 شخص.
ويعتقد عدد من الخبراء والباحثين والناشطين السياسيين، أن النظام نفذ عمليات الإعدام تلك في الخفاء وبعيدا عن أعين المنظمات الأهلية والمستقلة. ولعل مقبرة “خاوران” خير شاهد على الإعدامات الجماعية التي شهدتها إيران خلال تلك الحقبة، إضافة إلى شهادات من نجوا بطريقة أو بأخرى من تنفيذ تلك الأحكام آنذاك.
ولا تزال المئات من عائلات الذين أعدموا خلال تلك الحقبة، يستجدون الحكومة لتحديد أماكن دفن ذويهم على أقل تقدير، دون أي تجاوب يذكر من قبل السلطات الإيرانية.
يذكر أن أحكام الإعدام الجماعية تلك، أصدرها رأس الهرم في النظام الإيراني في تلك الفترة الخميني الذي أصدر سرا فتوى لإضفاء غطاء شرعي على عمليات الإعدام، وذلك في رسالة جاء فيها “إن أعضاء مجاهدي خلق يحاربون الله، واليساريون مرتدون عن الإسلام”.
ويقول الباحث في الشؤون الإيرانية البروفيسور المعروف يرواند إبراهامیان في كتابه الشهير “إيران بين ثورتين”: إن النظام الإيراني كان يطرح بعض الأسئلة على السجناء قبل محاكمتهم من بينها: هل أنت على استعداد لإدانة مجاهدي خلق عبر مقابلة تلفزيونية؟ هل أنت على استعداد لوضع حبل المشنقة حول رقبة أحد المنافقين (أعضاء منظمة مجاهدي خلق)؟ هل أنت مستعد لأن تقوم بتطهير الحقول الملغمة من الألغام ليتقدم جيش الإسلام؟ إن أي إجابة سلبية واحدة على أي من هذه الأسئلة تعني الحكم بإعدام ذلك الشخص، وبالتالي أخفق الآلاف من هؤلاء في تجاوز هذا الاختبار العصيب، وكانت الخطوة التالية نقلهم إلى غرف أخرى ليقوموا بكتابة وصاياهم وكلماتهم الأخيرة قبل تنفيذ أحكام الإعدام فيهم.
وإذا كانت إيران تزعم أن هذه الإعدامات لم تكن بدوافع سياسية بحتة، فلماذا تحاط هذه الإعدامات بهالة من السرية؟ ولماذا لا توجد شفافية عندما تتم المطالبة بالتحقيق في وفاة أو مقتل هذا الناشط أو ذاك؟ ولماذا لا يسمح للمراقبين المستقلين بحضور المحاكمات؟ ثم لماذا منعت المحامين من لقاء موكليهم بحرية والوصول إلى الملفات الخاصة بهم؟ لماذا عقوبة السجن لهذا العدد الكبير من المحامين والصحفيين الذين تحدثوا عن عدم مراعاة الحقوق القانونية للسجناء خلال المحاكمات؟
وثائق خلخالي: لو أعدمت المزيد
ويوثق محمد صادق صادقي كيوي، المعروف باسم آية الله الحاج صادق خلخالي، في مذكراته أول حكم صدر من قبل المحاكم الثورية، فيقول إن أول أحكام الإعدام التي أصدرتها الجمهورية الإسلامية في إيران، كانت بعد يومين فقط من انتصار الثورة في فبراير 1979.
وسجلت تحت عنوان الإعدامات الثورية “بعد أن تلقيت الأمر (الأمر صادر تحت توقيع أية الله الخميني)، بدأت بمحاكمة المجرمين من “الدرجة الأولى”.
إن أول الأشخاص الذين تمت محاكمتهم وتم تنفيذ حكم الإعدام في حقهم، كانوا كلا من: رئيس جهاز السافاك نعمة الله ناصري، قائد القوات الجوية منوتشهر خسروداد، الحاكم العسكري في أصفهان رضا ناجي، الحاكم العسكري في طهران والقائد العام للشرطة في البلاد مهدي رحيمي.
لقد تم تنفيذ حكم الإعدام الصادر بحق هؤلاء الأربعة في مساء 16 فبراير، في مدرسة “الرفاه”، وقد أصدرت شخصيا حكم الإعدام بحقهم.
لقد تم إعدامهم على سقف مدرسة الرفاه وهذه كانت أول حالات الإعدام (في النظام الجديد)”.
وبأمر مباشر من الخميني، أصدر صادق خلخالي حكم الإعدام بحق العديد من الأشخاص الذين حكم عليهم بالإعدام من قبل محكمة الثورة، تحت تهم “الإفساد في الأرض” ويعني ذلك بطبيعة الحال المعارضة السياسية.
وبعد الثورة، أصدر خلخالي عددا من أحكام الإعدام الغيابية بحق الكثير من مسؤولي النظام السابق وأقارب رموز الحكومة البهلوية تحت مسمى “الإفساد في الأرض”، كما سعى، وفقا لبعض التقارير، إلى اغتيال بعضهم في الخارج.
وفي شهر مارس 1980، تم اغتيال شهريار شفيق، نجل أشرف بهلوي (شقيقة محمد رضا شاه) في باريس.
والأمر ذاته كان مصير اللواء غلام على أويسي، في فبراير 1984 تقريبا، في باريس أيضا.
في السنوات الأخيرة من عمره، أجرت بعض وسائل الإعلام المحلية والأجنبية مقابلة مع خلخالي تحدث فيها عن “إعدام ما يربو على 500 من القتلة واتباع نظام الشاه”.
وأضاف أنه لا يشعر بأسف على ذلك، وتمنى أيضا أنه لو أعدم المزيد.
نقلاً عن صحيفة مكة