إيران وقياداتها السياسية والفكرية والأيديولوجية لا تثق بموسكو مطلقا، لكنها تستفيد منها خلال الأزمات، بسبب تقاطع المصالح بين البلدين
بعد عقود من انهيار الاتحاد السوفييتي والابتعاد عن التأثير في الساحة السياسية الدولية وموازين القوى العالمية، تنهض روسيا مجددا لتعود لاعبا رئيسيا ومؤثرا في لعبة الصراعات السياسية، فمنذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي كانت الولايات المتحدة الأميركية تشكل القطب الأوحد في العالم، إلا أن موسكو نفضت عنها غبار تلك السنين لتصبح رقما مُهمّاً في العالم، مدفوعة بطموح كبير للرئيس الحالي فلاديمير بوتين الذي يتوق كثيرا إلى بناء روسيا حديثة وقوية لا ترضى بالعيش على الهامش أو الاكتفاء بدور المتفرج في ظل المتغيرات التي تعصف بالعالم على المستويين السياسي والاقتصادي.
وإذا ما نظرنا إلى تحالفات روسيا -مع التحفظ على الوصف هنا- في منطقة الشرق الأوسط لوجدنا أن إيران من أكثر الدول الإقليمية قربا منها ومن رؤاها، على أقل تقدير خلال الوقت الراهن، بخاصة عند الحديث عن موقف الدولتين من الأزمة السورية والتعاون بينهما، سواء في دعم النظام السوري أو استهداف الشعب السوري ومحاولة إخماد ثورته.
وإذا ما تجاوزنا شهر العسل الراهن بين الدولتين ظهر أمامنا سؤال مهمّ: هل تثق طهران بموسكو؟
من النادر أن تجد تقريرا أو تحليلا يتطرق إلى هذا الشأن، وفي هذا الإطار تحديدا. معرفتي المتواضعة بالنمط التفكيري للعقلية الإيرانية تجعلني أجزم بالقول إن إيران وقيادتها السياسية والفكرية والأيديولوجية لا تثق بموسكو مطلقا، لكنها تستفيد منها خلال الأزمات، لأسباب كثيرة، منها تقاطع المصالح بين البلدين. والتاريخ حاضر دائما في المخيِّلة الإيرانية على المستويين الرسمي والشعبي، فتاريخيا يُعَدّ الحضور الروسي على الساحة الإيرانية سلبيا للغاية، فروسيا هزمت إيران في حربين كبيرتين خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، واقتطعت أجزاء من الأراضي الإيرانية، كما لعبت دور الهيمنة الاقتصادية على إيران في بدايات القرن العشرين، واقتسمت النفوذ مع البريطانيين على الأراضي الإيرانية خلال حقبة الثورة الدستورية (1905-1911). أما في الوقت الراهن فبين البلدين علاقة سياسية واقتصادية جيدة، لكن ذلك لم يمسح التاريخ بكل آلامه وجراحه، كما أنه لم يغيّر المزاج الإيراني العام تجاه روسيا.
الأهم من ذلك أن روسيا تدرك خطر الانفتاح الاقتصادي الغربي على إيران، بخاصة أن الشركات الأميركية والألمانية والفرنسية جاهزة للانطلاق نحو السوق الإيرانية المربحة متى ضمن التزام إيران بالاتفاق النووي. وبعودة العلاقات بين طهران والعواصم الغربية إلى طبيعتها، ستصبح إيران منافسا قويا لروسيا في مسألة تصدير الغاز إلى أوروبا، وهي مرشحة لذلك بقوة بحكم موقعها الجغرافي وحجم إنتاجها من الغاز الطبيعي، الأمر الذي لا ترغب موسكو في التفكير فيه أساسا، فكيف إن برزت مؤشرات تَحَقُّق ذلك على أرض الواقع؟! كما أن الغاز الإيراني يُعَدّ خيارا جيدا من الناحيتين الاقتصادية والإستراتيجية للدول الأوروبية من حيث التكلفة المنخفضة والموقع الجغرافي لإيران، والأهم أن استبدال الغاز الإيراني بالروسي يمنح الجانب الأوروبي فرصة الخلاص من هذا الكارْت السياسي والاقتصادي الذي تلوح به روسيا في وجه الأوروبيين عند بروز أي خلافات بين الجانبين. لهذا فمن الطبيعي أن نتساءل: هل ستقبل روسيا بأن تكون طرفا في الإضرار بمصالحها وإستراتيجياتها؟
الواقع أن موسكو في ظل اصطفافها مع طهران في الوقت الراهن على الجانب المقابل لواشنطن وبعض العواصم الأوروبية، لا ترغب في إفساد المفاوضات، وأن تظهر في صورة المتسبب في عدم الوصول إلى اتفاق نهائي مع إيران، إلا أنها لن تقبل بأي اتفاق ضد مصالحها، سواء في شرق أوروبا أو في منطقة الشرق الأوسط.
من المعلوم أن اللعبة السياسية قائمة في المقام الأول على مبدأ حساب المصالح والمهددات بكل فروعها الإستراتيجية والمرحلية، السياسية والاقتصادية والعسكرية، ومن ثم فإن أي تحرك روسي أو إيراني قادم سيسبقه دراسة دقيقة لحجم المكاسب والخسائر، كما ستكون إيران في موقف أكثر حرجا بين أتباعها والمغرَمين بها من جانب، وحلفائها وداعميها في الماضي القريب من جانب آخر، فالانفتاح الاقتصادي أمر يسيل له لعاب الساسة الإيرانيين كما هو حال الشركات الأجنبية، لكنه قد يفقدها الجانب الروسي الذي يعلم -ربما أكثر من الإيرانيين أنفسهم- أسرار المحطات النووية والقوة العسكرية الإيرانية، وهو صديق غير مأمون الجانب من وجهة النظر الإيرانية. هنا تكمن معادلة الحسابات الإيرانية وخطورة اتخاذ قرارات السنوات القليلة القادمة على أقل تقدير.
لكن ماذا لو نظرنا إلى المعادلات السياسية الأخرى بعيدا عن ثنائية موسكو وطهران؟ مثلا عند النظر إلى التنسيق الروسي الإيراني حول الأوضاع في سورية ودعمهما غير المحدود لنظام بشار الأسد، نرى أن هذا التنسيق تكتيكي أكثر منه إستراتيجيا، ولقد برزت الخلافات بين الجانبين عند السيطرة على مدينة حلب ومحاولة طهران عرقلة أي توافق بين أنقرة وموسكو، لذلك حاولت الميليشيات الإيرانية الحيلولة دون إجلاء المدنيين من المدينة المنكوبة، مما قاد روسيا إلى التهديد بقصف أي جهة تفشل الاتفاق حول حلب.
هذه الحالة تجعلنا نستشرف مستقبل التنسيق الروسي – الإيراني في حالة دخول أطراف خارجية على خط المفاوضات الجادة حول مستقبل القضية السورية، فالأهداف الإستراتيجية الروسية في سورية مختلفة تماما عن نظيرتها الإيرانية في الغالب. ومن المؤكد أن من أسباب التنسيق الروسي – الإيراني الحالي روح المناوشة، والتوتر أحيانا، في العلاقات الروسية – الأميركية، ومتى أخذت العلاقة بين الجانبين مسارا تقاربيا فقد تصبح إيران خارج اللعبة تماما وتتحول إلى دولة هامشية.
ويرى كثيرون أن العلاقات الروسية – الأميركية قد تتحسن خلال فترة رئاسة دونالد ترمب، وتوجد مؤشرات كثيرة لذلك، لعل آخرها اختياره شخصية مقربة من الرئيس الروسي بوتين وزيرا للخارجية، إلى جانب عدة تصريحات أطلقها ترمب تحدث فيها عن مستقبل العلاقات بين موسكو وواشنطن. أما العلاقة بين روسيا والدول العربية فإنها في الوقت الراهن تمر بحالة برود طاغية، ومن ثم فليس لها أي انعكاسات سلبية على طبيعة العلاقة بين موسكو وطهران، ولا أرى أي بوادر تغير على المدى القريب، ومع الأسف الشديد لا تزال الدول العربية أيضا -إلا ما ندر- خارج اللعبة الإقليمية، وأرجو ألا يستمر هذا طويلا.
نقلاعن ایلاف