فلسطين تحتاج في زمن الترامبية والأوبامية إلى مخيلة خصبة وقيادة جريئة ترتقي إلى مستوى صدفة تاريخية أنتجت قرارا أمميا خارج سياق الراهن. نعم هي صدفة، ورب صدفة خير ميعاد.
في 23 ديسمبر الحالي، بعد هنيهات من إعلان الرئيس الحالي لمجلس الأمن الدولي مصادقة الأعضاء على القرار الذي يدين سياسة الاستيطان في إسرائيل، دوى تصفيق ندر أن يحصل مثله تحت سقف المؤسسة الأممية. حظي التصويت على شبه إجماع لم يحل دون ذلك الكامل إلا امتناع الولايات المتحدة عن التصويت، وفي ذلك فقط تكمن الحكاية.
وافقت 14 دولة على القرار من أصل 15. وهذا أول قرار يتبناه المجلس بشأن إسرائيل والفلسطينيين منذ نحو ثماني سنوات. ويعتبر القرار أن المستوطنات الإسرائيلية تشكل انتهاكا للقانون الدولي، وتشكل عقبة أمام تنفيذ حل الدولتين.
يعكس التصفيق بعفويته لبّ المزاج الحقيقي للرأي العام الدولي إزاء حالة فريدة يجد العالم صعوبة في مواجهتها أو حتى التعبير عن رفضها وسخطه من وجودها في عالم القرن الحادي والعشرين. امتلكت إسرائيل نفوذا دوليا لطالما أسقط أي قرارات تدين السلوك الإسرائيلي. وإذا ما صفق العالم هذه المرة بحرارة، فليس بالضرورة انتصارا لمظلومية فلسطينية، بقدر ما كان تعبيرا عن مشاعر مكبوته ضد “الاستثناء” الإسرائيلي في تاريخ المنظمة الأممية.
ومن الحكمة عقلنة الحدث واعتباره عرضيا لن ينهي بسهولة القاعدة التي تعامل بها مجلس الأمن مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ قرار التقسيم (رقم 181) الصادر عام 1947، مرورا بالقرارات الشهيرة التي نادت بعودة اللاجئين إلى أراضيهم (القرار رقم 194) عام 1948، أو الانسحاب إلى حدود 4 يونيو 1967 (القرار رقم 242). تعاملت إسرائيل مع نصوص مجلس الأمن بصفتها تمارين يتم إسقاطها عبر استخدام الولايات المتحدة لحق النقض، أو تمرر دون أن تنفّذ ودون أن يلجأ المجلس نفسه إلى أي تدابير عقابية ضد هذه الدولة التي لا تحترم ولا تطبق قرارات يفترض أنها تمثّل المجتمع الدولي برمته.
في المضمون لن تنفذ إسرائيل القرار الأخير، ولن توقف الاستيطان وفرض الأمر الواقع الأسمنتي على الأرض، وهذا ما جاهر به رئيس الحكومة الإسرائيلي. وفي الشكل سيمثّل الحدث مناسبة لكي تقدم حكومة بنيامين نتنياهو مشهدية الغضب والسخط والتوعد بالاقتصاص من الأمم المتحدة ومن الدول التي صوتت على القرار الأخير.
في آلية رص صفوف الأسطر التي بنت نص القرار تبدو إسرائيل في مواجهة مع “خصومها” في العالم. تظهر المناسبة وكأنها تصفية حساب بين أطراف في العالم حول مسألة يفترض أنها عربية، دون أن تكون للعرب هذه المرة علاقة بهذا السجال. تراجعت مصر عن تقديم مشروع القرار للتصويت بسبب ضغوط قيل إن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب ورئيس الحكومة الإسرائيلية قد مارساها على الرئيس عبدالفتاح السيسي. وبسبب ذلك التراجع، وتقديم المشروع رغم ذلك، وبعد ذلك، من قبل أربع دول غير عربية عضو في مجلس الأمن الدولي (ماليزيا ونيوزيلندا وسنغال وفنزويلا)، فإن العرب كانوا خارج حفلة السجال بين إسرائيل والعالم، على الرغم من تصويت مصر لصالح هذا القرار.
لكن في قرار الولايات المتحدة بعدم استخدام الفيتو والاكتفاء بعدم التصويت على القرار شيء من الصبيانية التي لا تفصح إلا عن مناكفة بين شخص أوباما وشخص نتنياهو. لا يمكن أن يعبّر الحدث عن تحوّل في طبيعة العلاقة التاريخية بين إسرائيل والولايات المتحدة، لا سيما وأن التصويت التصويبي لم يأت نتاج تراكم في نقاش الموقف من إسرائيل داخل الولايات المتحدة، ولا في ثمرة مزاج جديد داخل أروقة الكونغرس ومراكز القرار الأميركي. لاح أن الأمر لا يعدو عن كونه حادثة عرضية في الأيام الأخيرة لرئيس سيغادر البيت الأبيض. تعامل نتنياهو مع الأمر باستخفاف ووعد بعدم وقف الاستيطان، فيما لم يعره ترامب اهتماما إلا من خلال الوعد أن “أمور الأمم المتحدة ستتغير بعد الـ20 من الشهر المقبل”، موعد تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة.
يتقدم “الانتصار” الفلسطيني في مجلس الأمن بالصدفة. تفاجأ الفلسطينيون أنفسهم، حتى الذين كانوا يعرفون بأمر شلل الفيتو هذه المرة، بمرور هذا الإنجاز. في واجهة التعبير حديث عن انتصار كبير وعن “صفعة” وجّهت إلى نتنياهو، وعن تراكم طويل من العمل الدبلوماسي مع العالم أنضج ثمارا تمّ قطفها في القرار رقم 2334. أما في قرارة أنفسهم فاعتراف بأن المنجز أتاهم من حيث لا يدرون في لحظة سخط من قبل البيت الأبيض ضد رجل إسرائيل القوي.
يعرف الفلسطينيون أن قضيتهم فقدت وهجها الذي عرفته حين كانت حركات التحرر في العالم تعتبر فلسطين قبلتها وبوصلة حركتها في ستينات وسبعينات القرن الماضي. ويعرف الفلسطينيون أنهم لم يعودوا حراكا يربك العالم في انتفاضات ما قبل وبعد أوسلو. لم تعد فلسطين “قضية العرب الأولى”، ولم تعد المظلومية الفلسطينية تتصدر المظلوميات العربية في عصر البراكين العربية المتفجّرة. ولم تعد “المسألة الفلسطينية” تهدد السلام العالمي في مواسم داعش من سرت إلى الموصل.
صوّت العالم ضد المستوطنات الإسرائيلية التي تقضي على آمال الفلسطينيين في العيش داخل دولة ذات تواصل جغرافي، حتى داخل الـ22 بالمئة من أراضي فلسطين التاريخية التي تنادي بها القرارات الدولية، وحتى وفق الخرائط المشوّهة التي رسمتها اتفاقية أوسلو. قد لا يعرف الفلسطينيون لماذا اهتم مجلس الأمن منذ أيام بقضيتهم، وهم الذين أمعنوا في تقطيع أوصال وحدتهم وعملوا بجد دؤوب على تعميق الجراح في جسدهم. بات الانقسام تقليديا، ومن ثوابت الواقع الفلسطيني، بين فتح وحماس، بين الضفة والقطاع، فيما يستجد انقسام فتحاوي أظهر مؤتمر الحركة الأخير أعراضه المقلقة.
ومع ذلك ليس من الحصافة التقليل من أهمية الحدث، وليس من الفطنة التفتيش في ثنايا النصّ عن مَواطن لُبْس يدرجه في شبهات آثمة، وليس من الحكمة تجويف المنجز وتهشيم بريقه وفق معزوفات تدعي فهم المسرح وإدراك كواليسه. فليس مهما كيف تتباين أمزجة الفصول طالما حرث ما من جهة ما ولغاية ما جاء بذلك الحصاد. وللأمانة فإن إقرار العالم بعدم شرعية المستوطنات من خلال نصّ ملزم للعالم أجمع لا يخضع لوجهة نظر حربائية، لهو قاعدة قانونية متينة لا تحاكي موازين القوى التي إن تم قياسها، فستكشف تقدم إسرائيل في العالم وتراجع فلسطين في قاراته.
لكن لا شيء من كل ذلك يعفي الفلسطينيين من مسؤولية حسن تدبير المنجز الأممي الجديد. وما نعنيه هنا كل الفلسطينيين داخل كافة معسكرات التعدد والاختلاف. المسألة تخص فتح وحماس، كما فتح ومعارضتها، كما السلطة ومنظمة التحرير. ربما أن الحدث لن يتكرر، وربما أن الأمر عرضي قد تطيح به رياح الإدارة الأميركية الجديدة، بيد أن على الفلسطينيين، والفلسطينيين فقط، الاستثمار في هذا المنجز وجعله ناجعا يستدرج المجتمع الدولي نحو منجزات أخرى، ويستدعي هذا العالم للتورط إيجابيا في قضية كادت تصبح تفصيلا هامشيا هشا في الأجندات الدولية.
اختار الفلسطينيون وجهات متعددة لمواجهة الاحتلال. في تاريخ حكايتهم عبور نحو الهدف عن طريق الكفاح المسلح كما إطلاق الصواريخ كما العمليات الانتحارية كما العمليات الخارجية. وفي حكايتهم السبل السلمية والمفاوضات و“أوسلو” و“كامب ديفيد” و“واي ريفر”… كل ذلك أدى إلى حائط مسدود ربما أدركه السلمويون والجهاديون. بقي أن فلسطين تحتاج في زمن الترامبية والأوبامية إلى مخيّلة خصبة وقيادة جريئة ترتقي إلى مستوى صدفة تاريخية أنتجت قرارا أمميا خارج سياق الراهن. نعم هي صدفة، رب صدفة خير من ألف ميعاد.