قبل «أبو بكر البغدادي» وسلفه «أبو مصعب الزرقاوي» (ت 2006)، ألح شكري مصطفى، مؤسس جماعة التكفير والهجرة (أُعدِم عام 1978) على الحكومة المصرية للسماح له ولجماعته بالهجرة إلى الشام، من أجل إقامة «دولة إسلامية» هناك، انتظارًا لحروب آخر الزمان وقدوم المهدي. وكما أنه ليس «البغدادي» وحده مَن بشَر عناصره وأتباعه بمعارك «آخر الزمان» في دابق، التي خسرها خسارة سريعة وسهلة في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بل كذلك يتحرك المقاتلون المتشددون والراديكاليون الشيعة التابعون للولي الفقيه بروايات شبيهة وشعارات شبيهة. وهؤلاء ينتظرون «معركة حرستا» التي تشهد حربًا كبيرة فيها وبمنطقة سهل اليابس، وفق رواية منسوبة للإمام جعفر الصادق، أما اليمين المسيحي واليهودي المتطرف فيرى فيما يحدث في الشام الآن من صراع تحقيقًا لنبوءة أشعيا بخراب دمشق التي ستكون الأبرز في أحداث آخر الزمان، حسب الرواية.
لا يمكن أن تعيش آيديولوجيا دون «وعد». وإذا كانت دينية لا يمكن أن تعيش من دون «نبوءة» تجسّد هذا «الوعد». ولقد أحصى المؤرّخ الفرنسي لوك ماري Luc Mary عدد روايات «نهاية العالم» وحروب «آخر الزمان»، منذ انهيار الحضارة الرومانية، وحتى العصر الحاضر في 183 رواية تمتد في الزمان والمكان، عند مختلف الثقافات والأديان.
الوعد الآيديولوجي هو صلب تبشيريتها ودعوتها، ويمثل مع منطلقاتها الأصل والغاية في أي مسار أصولي، وبينما الممارسة والأداء والتنظيم والعمل. إلا أن تجارب الآيديولوجيات الانغلاقية في الحكم والسلطة دائما ما تسقط هذه الوعود، دينية كانت أم غير دينية. ومن ثم، تثبت الفشل الآيديولوجي العميق الكامن فيها، من ألمانيا النازية، مرورًا بالتجربة البعثية العربية التي انتهت انقسامًا واحتقانًا طائفيًا سوريًا وعراقيًا، إلى تجارب الأصوليات الدينية كما مثله نظام الولي الفقيه الإيراني الذي بشرت به ثورة الخميني عام 2013 أو تجربة الرئيس المعزول محمد مرسي في مصر عام 2013.
وكانت تجربة مرسي التي امتدت سنة أنتجت تمردًا شاملاً عليها. أما تجربة «داعش» التي تتساقط وريقاتها… فيعاني الناس ويلاتها ساعين للتحرر منها أينما وجدت، منذ «صحوتها» وإعلان «دولتها» المزعومة الحالية في يونيو (حزيران) 2014 أو «سابقتها» في «دولة العراق الإسلامية» المزعومة التي أعلنت تأسيسها عام 2006 وسقطت عاصمتها بـ«صحوة الصحوات» من مواطنيها ضدها عامي 2007 و2008.
إنها «يوتوبيا الفشل»… أو «فشل اليوتوبيا» الذي أنتج أسوأ مما قامت مُعترضة عليه. ويكشف كذلك خطأ منطلقاتها التي تعتمد في تسويغها التأويل واللاتاريخية ويصيبها ما يسميه الراحل محمد أركون «استحالة التأصيل» أو غيبة الأصالة الحقيقية. وليس غريبا اعتراض عدد من المنتمين للعلم الشرعي على مصطلح مثل «الحاكمية» واعتباره بدعة، كونه لم يرد في أي من كتب أصول الدين قديمًا، بل بمسح بسيط لكل كتب التراث السياسي الإسلامي خلال القرون العشرة الأولى، سواءً ما تعلق منها بالأحكام السلطانية أو السياسات الشرعية، لا نجد كتابًا واحدًا احتوى على مفردة «الحاكمية»… هذا المفهوم الحديث والمنحوت من قبل سيد قطب في تعريبه للمودودي، الذي طارت به مختلف الأصوليات الراديكالية المعاصرة، سنية وشيعية على السواء.
* المنطلقات والوعود الآيديولوجية
يحتاج أي خطاب آيديولوجي إلى أمرين، هما المنطلقات الكلية والوعود الآيديولوجية:
1- المنطلقات الكلية: ينطلق منها، وهي تتعلق بتراث الوعي ومقدساته وهويته وواقعه المأزوم، مثل الحاكمية أو عودة الخلافة وتطبيق الشريعة والإمامة، أو ولاية الفقيه وتكفير المخالفين ووصمهم بالردة والارتداد، والدعوة إلى «الجهاد» من أجل مجابهتهم وأعوانهم، عدوا قريبا أم بعيدا، ويتم بها شحن أتباعه وأنصاره وتجنيدهم واكتساب حضوره تنظيما، أو شرعيته نظاما.
2- الوعود الآيديولوجية: لا يمكن تجاهل الواقع، مهما ادعت التنظيمات الآيديولوجية والأصولية الاقتدار عليه، أو الانقلاب على مقدراته؛ وهو ما يجعل الوعود الآيديولوجية المتعلقة بالواقع وتغييره أكثر رواجًا من المنطلقات والأسس الآيديولوجية ذاتها، إغراءً للجماهير بالنصر والسيادة وحل كل مشكلاتهم. فما يطرحونه هو «الحل» وهم يدعونهم إليهم ليصلحوا «الدنيا بالدين» أو «أستاذية العالم» و«تصدير الثورة للعالم»… وما شابه من شعارات وغايات لا تبحث كثيرا وسائلها، وتغيير واقع الوطن والمواطن، وهو ما لا يحدث عند تجربتها.
والواقع أنه لا تنحصر الوعود الآيديولوجية في الحركات الدينية المتطرفة، بل هي موجودة كامنة، كذلك، في كل الآيديولوجيات الرسالية منذ قديم، قومية ودينية على السواء، حاملة وعدًا بالتحقق والخلاص الفردي أو الجمعي، تحريرا وتحررا وتوحيدا وتوسعًا.
كانت كامنة في النزعات والحركات القومية طوال التاريخ، من عهد قورش الأخميني، أو قورش الكبير، (560 – 529 قبل الميلاد) مروا بالإسكندر الأكبر المقدوني (ت 323 قبل الميلاد) وجنكيز خان (ت 1227 ميلادية)… وصولاً إلى القرن الماضي الذي وصف بعصر القوميات. وفيه بزغت النزعات القومية الألمانية والتركية والعربية بدعاوى وشعارات التحقق والخلاص للأمة بل وللعالم، وللمختلفين معها كذلك، سواء كانوا تنوعات داخلها من القوميات الصغرى أو للعالم الذي ستقوده، كما كان يقول النازيون الألمان، أو ستمارس أستاذيتها عليها، كما تأثر بهم الإسلاميون والقوميون العرب.
ولا تقف الوعود الآيديولوجية لدى الأصوليات الدينية عند حل مشكلات الدنيا وأزمات العالم فقط، بتحقيق الرفاه والتغيير والعدالة الاجتماعية شأن الآيديولوجيات الوضعية الأخرى، لكنها أيضا تسافر بوعودها نحو الخلاص آخر الزمان ونحو المخلص، والتمهيد لقدومه، سواء كان مسيحيًا، كما كان عند اليمين المسيحي، أو مهدويا كما هو عند الكثير من الحركات الدينية في العالم الإسلامي وغيره.
وتسقط كل جماعة وصف «الطائفة المنصورة» على نفسها، وأنها المصطفاة للقتال والنصرة مع المخلص حروب آخر الزمان، لتحقق تجربة تملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جورا وظلمًا. وهي المقولات التي لم تنتظر آخر الزمان الذي لم يأت، بل ظلت تتوالى وتصعد منذ القرنين الأول والثاني الهجريين، وكذلك منذ القرن الثالث الميلادي في التاريخ المسيحي.
كما تتطابق منطلقاتها مع وعودها، وعدا بصلاح الأمة وتحقيق سعادتها وانتصاراتها، بل أحيانا بتحقيق الجنة على الأرض، تحقيق مجتمعات ودولة المدينة الفاضلة، أو استعادة يثرب القديمة في يثرب جديدة تعيد تجربة الصدر الأول في المدينة المنورة، مشتركا بين كل دعاة الآيديولوجيا الأصولية الدينية، سنية وشيعية معا.
* الإيرانيون والولي الفقيه
باستقراء بسيط للصحف الإيرانية عامة، وليست فقط المعارضة الإيرانية، في الأيام القليلة الماضية، يروّع المتابع ويهوله ما تضمنته من نقد معلن يعبر عن اليأس من وعود نظام الولي الفقيه وحكومته للشعب الإيراني، وذلك بدءا من المشكلات العتيقة والعميقة التي تزداد عمقًا في مستوى الأداء والفساد إلى التناقضات التي تتضمنها ممارسة هذا النظام، ومن ثم إلى الأزمات الكبيرة في مستوى الخدمات التي يقدمها لشعبه. وبعض ذلك أو كثير منه ليس متعلقا بمؤامرة خارجية أو كراهية غربية تمثل شماعة دائمة للفاشلين، ولكنه متعلق وبشكل واضح بأداء هذه الحكومات وهذه العقليات التي تلبس أقنعة الرفاه والعداء للعالم بينما لا تقدم للوطن ما يحتاج إليه وتفشل فيه.
وحقًا خلال احتفالات «يوم الطالب» في 6 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وجه عدد من الطلاب انتقادات حادة للرئيس الإيراني حسن روحاني الذي حضره في العاصمة طهران، تنوعت ما بين تقييد الحريات وتهم بالفساد وغيرها. وحسب جريدة إماراتية ترجمت التقرير عن الصحف الإيرانية، واجه أحد الطلاب روحاني منتقدًا ومذكرًا إياه بأنه قبل ثلاث سنوات قبل انتخابه كان ينتقد الحكومة لارتفاع الإنفاق الحكومي، ولكن في عهده ارتفع إنفاق الحكومة 2.5 في المائة عن سابقتها. ومن ثم اتهم الطالب حكومة روحاني بسوء الإدارة والفساد، وقال أمام الرئيس بلا وجل إن نسبة البطالة ارتفعت في عهده بشكل غير مسبوق. وأضاف الشاب نفسه مخاطبا روحاني «إنك لم تكن رئيسًا جيدًا، ولم تستطع الحفاظ على بلادنا. ظننت أن أميركا ستنفذ وعودها خلال التفاوض معها، لكنهم (الأميركيون) خدعوك وهم بالتأكيد فضلوا مصالح بلادهم على الصدق معك. إن ما تقوله منذ ثلاث سنوات تكرر قوله الآن، ولا تنفذ شيئا».
وثمة شاب آخر يدعى صادق آقاجري، واجه روحاني، حسب التقرير، بالتناقضات الكبيرة في الخطاب الإيراني، فبينما وقعت إيران في عهده على الاتفاق النووي، ما زالت ترفع شعارات الموت لأميركا في كل مكان… وخاطب الطالب روحاني قائلا: «هل يمكن أن تخبرنا يا سيد روحاني كم مرة تغيرت مبادئنا؟»، كذلك انتقده بسبب الحريات وبسبب حقوق المرأة المتدهورة رغم أنها كانت من شعارات روحاني أثناء حملته الانتخابية.
وفي تقرير آخر نشرته صحيفة «أفكار نيوز» الإيرانية في 8 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، انتقد نائب مجلس الشورى الإيراني ورئيس لجنة العمران كمال الدين شهرياري أداء الحكومة بشكل واضح، واصفًا إياه بالفشل وأنه أصاب الشعب باليأس.
وبالفعل، تجمع المصادر على أن الإيرانيين يعانون أزمة عنيفة في قطاع السكك الحديدية التي يلقبونها «طرق الموت» ويشوبها فساد كبير، كما يعانون أزمات بيئية ونقص مياه حادا، فضلا عن تراجع مستوى الاقتصاد والعملات لمستويات غير مسبوقة. كذلك تنتشر الكثير من الأمراض الخطيرة كـ«الإيدز» الذي وصل لمعدلات غير مسبوقة وصار حسب الصحافة الإيرانية أزمة عامة، وهناك أيضًا المشكلات الاجتماعية، مثل ازدياد عدد الأرامل والأسر المعوزة مع موت كثرة من الشباب الإيراني في حروب النظام الخارجية في سوريا والعراق.
أضف إلى كل ما سبق أن مشكلات الأقليات العرقية، العربية والكردية والأذرية وغيرها من شعوب إيران، تتصاعد كل عام في ظل انعدام الحلول وغياب الوعي والإرادة الحكومية عن حلها. وكان مما تناولته الصحف الإيرانية أخيرًا مشكلة نهر كارون الأحوازي ووجود سياسة ممنهجة لتخريب أرض منطقة الأحواز العربية وإجبارهم على الهجرة منها! وهذا فضلا عن الأقليات الدينية التي تعاني تمييزا ضدها، ولقد وقعت خلال الفترة الأخيرة تسع عشرة منظمة حقوقية بيانا تطالب فيه بحماية حقوق المسيحيين في إيران، الذين تراجعت نسبتهم في عهد نظام الولي الفقيه للثلثين. وهؤلاء يعانون تمييزا مستمر، خصوصا مع توتر المشهد والوجدان الديني فيها، وتزايد معدل التحولات الدينية أحيانًا إلى ديانة الآباء الزرادشتية، وأحيانًا للمسيحية، وأحيانا أخرى للتسنن، وبخاصة في المناطق ذات الكثافة العربية.
إنه فشل يتوالى للآيديولوجيات المغلقة تتعدد وتتأكد دلائله كل يوم. وتسقط معه الوعود الخاصة والعامة، سواء للطائفة أو الأمة أو العالم؛ لأن الانغلاق لا يمكن أن يكون سبيلاً للنجاح في مكان
نقلا عن ایلاف