اسمحوا لي أن أقول إن سياسات بكين في الشرق الأوسط سياسات غامضة وملتوية ولا تراعي سوى المصالح الصينية. وهذا ليس عيبًا من حيث المبدأ لأن كل دول العالم تضع مصالحها في المقام الأول، لكن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقولون. فبكين أعلنت مرارًا أنها معنية باستقرار الأحوال في منطقة الشرق الأوسط لأنها المنطقة التي تحصل منها على جل وارداتها من النفط الذي هو عصب صناعتها وازدهارها وتألقها التجاري. كما أعلنت مرارًا وتكرارًا أنها ضد الارهاب بكل أشكاله ومستوياته ومصادره، خصوصًا وأنها تجرعت مرارة الأعمال الارهابية التي استهدفت سيادتها ووحدتها زمن نظام طالبان البائد في أفغانستان المحاذية لها من الشرق.
لكن كيف يستوي هذا وموقفها من النظام الايراني العابث بأمن واستقرار الدول العربية، وعلى رأسها دول الخليج العربية، خصوصًا في ضوء الزيارة الأخيرة لوزير دفاعها «تشانغ وان كوانغ» في منتصف نوفمبر إلى طهران بدعوة من نظيره الإيراني حسين دهقان، وما حدث على هامش الزيارة من عقد اتفاقيات عسكرية حول تبادل الخبرات في المجالات الحربية والتكنولوجية وإجراء مناورات عسكرية مشتركة وتدريبات على الأسلحة المتطورة. وهذا يعني، بطبيعة الحال، أن الصين تساهم في تقوية ذراع نظام الملالي الارعن، وتمده بأسباب المنعة والقوة لمواصلة أعماله الإجرامية في الاقليم الذي تزعم بكين أنها حريصة على أمنه واستقراره.
ولعل أكثر ما يبعث على السخرية هو فحوى البيان المشترك حول زيارة الوزير الصيني والذي تضمن أن البلدين سوف يتعاونان على «مواجهة الإرهاب وعوامل زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة». فهل يا تُرى أن الصينيين مغيبون عن أفعال طهران الاجرامية في السعودية والبحرين والكويت والعراق وسوريا واليمن، إضافة الى طائفة من دول جنوب وجنوب شرق آسيا التي يجري تشييع وتثوير شعوبها؟ أم أنهم واقعون تحت وهم الدعاية الايرانية الصفراء المضللة؟ لا أعتقد ذلك في حالة دولة عظمى كالصين المعروفة بأجهزتها الاستخباراتية والاعلامية المنيعة.
من جانب آخر تزعم الصين أنها تتمسك بقوة بسياسات عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. ومن هذا المنطلق عودتنا على مواقف مائعة في مجلس الأمن الدولي حيال الحرب السورية وما تفرع عنها من أزمات انسانية غير مسبوقة في التاريخ الحديث، إلى حد انضمامها في إحدى المراحل إلى روسيا الاتحادية في استخدام حق النقض (الفيتو) لعرقلة قرار أممي لصالح الشعب السوري الجريح. فهل مثل هذا الموقف يتفق مع شعارات الحكومة الصينية بضرورة الحفاظ على أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط، أم أنها هنا لا تعرف أيضا بتدخلات طهران وأنصارها من التنظيمات الميليشاوية والجماعات الارهابية في الشأن السوري بهدف الهيمنة والتوسع وخلق الفتن والفوضى؟
أسئلة نحيلها إلى صناع القرار العرب الذين يحجون إلى الصين ويكررون الإشادة بها وبمواقفها بمناسبة وغير مناسبة، مع علمنا المسبق أنهم يحاولون بهذا تحييد بكين فيما خص نزاعات ومشاكل الشرق الأوسط المستفحلة العديدة، ويستهدفون في الوقت نفسه إقامة توازن في علاقات بلدانهم مع واشنطون وموسكو عبر طرق أبواب التنين الصيني.
لكن ها هي الصين، بدلاً من أن تصغي إلى مظالمهم الناجمة عن خيانة الحليف الامريكي وعجرفة قياصرة موسكو الجدد، وارهاب طهران، تنفتح عسكريًا وتكنولوجيًا على النظام الايراني الغاشم، وكأنك يا بو زيد ما غزيت! يحدث هذا على الرغم مما يربط دول الخليج العربية بالصين من مصالح نفطية وتجارية واقتصادية تفوق ما يربط الأخيرة بايران بعشرات المرات، سواء لجهة الكم او النوع.
إن مشكلة دول الخليج العربية لجهة علاقاتها مع الصين وعدم وضوح هذه العلاقة، التي استماتت بكين من أجلها لعقود طويلة منذ خمسينات القرن الماضي، تكمن في عدم تحدثها بلغة واحدة قوية جامعة أمام صانع القرار الصيني، وقيامها بدلاً من هذا بالحديث بلغة تغلب عليها المصلحة القطرية.
ولعمري أن هذا الخلل، معطوفًا على عدم وجود رؤية خليجية جماعية واضحة لما هو مطلوب من الصين من دور تقوم به في الاقليم، سهل على بكين اتخاذ مواقف سياسية مرتبكة، إن لم نقل غامضة او معادية، في الوقت الذي يتكلم فيه الايرانيون معها بلغة واضحة يدغدغون فيها مخاوفها من عدوهم المشترك ممثلاً في الولايات المتحدة صاحبة الأجندة المعروفة الهادفة إلى كبح جماح الصعود الصيني في الشرق الأقصى والعالم بأسره.
وعليه فإن المطلوب هو التعامل جماعيًا مع الصين بلغة واضحة، والضغط عليها لاتخاذ مواقف تصب في صالح تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، وإبلاغ قادتها أن المصالح الصينية الكثيرة في بلداننا مهددة إن تمادوا في مغازلة النظام الإيراني. ولا بأس أن نرفع، في هذا السياق، يافطة «إما معنا أو ضدنا».