ستقلق دمشق وطهران من فرض صفقة تبرم مع تركيا تصادر خياراتهما الحلبية، وستقلق العاصمتان من احتمال اصطدامهما مع خيارات موسكو المقبلة داخل دولتهم ‘المفيدة’.
تمثل معركة حلب نهاية زمن وبداية زمن آخر في المشهد الدولي العام. وسيؤرخ المحللون السياسيون للحدث بصفته مفترقا يؤسس لولادة نظام دولي جديد يطيح تماما بالخرائط التي خرجت من مطابع انهيار الاتحاد السوفياتي واندثار الحرب الباردة.
تتوّج حلب سياقا تراكمت تفاصيله على مدى الأزمة السورية منذ 2011. داخل الميدان السوري، قدمت الولايات المتحدة وعلى دفعات ووفق إيقاعها، استقالتها من زعامة العالم بصفتها القوة الأولى والوحيدة، دون أن تتقدم دولة أخرى لاحتلال موقع تلك الزعامة. ومن خلال الميدان السوري بدا أن العالم فقد ضوابطه وقواعده، وولج في رمادية مربكة تهدد بتصدّع منظومات دولية أملت قيمها وثوابتها على الواقع الدولي العام.
بالمناسبة السورية، وبسبب الهوس الذي صاحب تدفق اللاجئين إلى أوروبا، صوّت البريطانيون لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، فيما تميل تيارات داخل دول الاتحاد لقرع باب الخروج من الصرح الأوروبي الكبير. وبالمناسبة السورية تتصاعد حمى الغرب في الانبهار بالدكتاتورية والتشكيك بالديمقراطية والترويج لمنطق الاستقرار في العالم حتى لو جرى بقوة الأقوياء. وبالمناسبة السورية سال لعاب دونالد ترامب في الإعجاب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما سحب هذا الإعجاب على قادة اليمين الأوروبي، بما بات تقليعة العصر الراهن.
تبدو حلب كشّافا لاصطفافات القوى في العالم وميزانا لحقيقة نفوذها. لم تبد الولايات المتحدة اهتماما حقيقيا بالشأن السوري إلى حدّ تأمل الكارثة دون تدخل يغيّر من مساراتها. لم يكن موقف واشنطن إلا راسما للخرائط في يوغسلافيا السابقة وفي الكويت وفي أفغانستان والعراق.. إلخ، فيما تركت إدارة باراك أوباما للعالم أجمع حرية العمل أو الشلل في الشأن السوري، فإذا ما تراجعت همّة فرنسا وبريطانيا تأثرا بقرار الأميركيين بعدم التورط في أي نزاع خارجي، سوري خصوصا، فإن دولا أخرى وجدت في نفس المزاج الأميركي سبيلا للتورط والانخراط والاستثمار داخل المأساة السورية دون تردد. هنا فقط يكتشف الوزير البريطاني السابق جورج أوزبون في قلب مجلس العموم أن مأساة سوريا “سببها عدم تدخل الغرب” والفراغ الذي سمح به في البلد.
تمثّل مداولات الصفقة الروسية – التركية لإجلاء شرق حلب من المقاتلين ولمن يرغب من المدنيين، قمة الاستقالة الأميركية التي عملت عقيدة أوباما على تثبيتها وصيانتها والدفاع عنها. يعلن البيت الأبيض بعد سنوات من المداولات الأميركية الروسية حول سوريا، وبعد الآلاف من الساعات التي جمعت وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بنظيره الأميركي جون كيري، وبعد المئات من الساعات التي جمعت الخبراء العسكريين للبلدين في جنيف، أن الولايات المتحدة ليست شريكة في الاتفاق الروسي التركي وأنها لا تعلم عنه شيئا، تماما كأي دولة صغيرة هامشية أخرى. تعتبر واشنطن نفسها غير معنية بمآلات حلب كما مآلات سوريا، وهي التي منذ الوكالة الضمنية التي منحتها لموسكو في هذا المضمار لا تفعل سوى مواكبة التاريخ دون أي تدخل للتأثير في أهوائه.
تسقط الولايات المتحدة في سوريا عن سابق تصور وتصميم. فالبلد لا يشكل خطرا مباشرا على “أمننا” حسب الرئيس باراك أوباما، و“لا مصالح لنا به”، حسب نائبه جو بايدن. وترتفع روسيا في السلم الدولي في سوريا، ذلك أن البلد بالنسبة إلى موسكو مناسبة عزيزة للخروج من وجع انهيار الإمبراطورية السوفياتية والعودة إلى المياه الدافئة، منهيا الصقيع الذي نفخته سنوات بوريس يلستين. وفي سوريا تطل الصين المتسللة نحو قمم العالم لتحدث ضجيجاً نادرا مؤازرة للتحالف مع روسيا بوتين من جهة، وتصديا لذلك النزق المعادي الذي تحمله أميركا ترامب من جهة أخرى. ووفق اليوميات السورية تشتد ملامح التناحر العالمي الجديد الذي بدا أن العقود السابقة قد وأدت جلبته.
لكن تسليطا لمجهر وقح على الحالة السورية قد يكشف أن الصراع في سوريا لا يمثل انتصارا للخيار الروسي على خيار دولي نقيض، بل لا يعدو الأمر كونه تقدما قامت به موسكو داخل فضاء أفرغته وتنازلت عنه كل القوى الدولية المنافسة.
لم يكن فلاديمير بوتين ليغامر في سوريا لو أن الغرب كان مهتما بشأن البلد، منشغلا بترتيب مستقبله. بدا أن الولايات المتحدة مرتاحة لقيام روسيا بما لا تريد واشنطن القيام به، وهي لم تعط أي إشارة أمنية مهددة تحول دون ذلك. كانت تكفي إشاعة تسرّب بضعة صواريخ مضادة للطائرات لتعيد تذكير رجل الكرملين بكوابيس أفغانستان. لكن واشنطن لم تزوّد المعارضة بهذا النوع من السلاح، ولم تسمح للدول الإقليمية بالقيام بذلك كما أنها لم تُشعْ ولو كذبا باحتمالات ذلك.
أسس أوباما للبناء الذي اعتمده خلفه دونالد ترامب للتبشير بودّ مع بوتين وتعاون مع روسيا. أحسنت موسكو إتمام صفقة إخراج السلاح الكيميائي السوري حين طالبت واشنطن بذلك حماية لأمن إسرائيل، وبالتالي أضحت روسيا عاملا إيجابيا بالإمكان التعويل عليه من خلال التعاون وليس المناكفة. وفي المقاربة الأوبامية الترامبية لروسيا سعي لمعالجة “ملف” الصين، إما عبر الاقتراب من موسكو واستمالتها وحرمان الطرف الصيني من قوة روسية وازنة، وهذا مستبعد، وإما عبر إضعاف روسيا في سوريا وتسهيل تورطها الآن وتشجيع استنزافها غدا، وهذا صعب لكنه ليس مستحيلا.
بيد أن روسيا ترتجل قصتها السورية وتراكم كل يوم برشاقة وبراغماتية قواعد استقرارها طويل الأجل في المنطقة. تعرف موسكو درجة النفاق والخبث التي تربط علاقة تركيا بإيران، فيما قد يستدعي البعض تناقض النوستالجيات العثمانية والصفوية في المنطقة، وفيما يستدرج البعض الآخر هذا التصادم السني الشيعي هذه الأيام.
وفيما تختار الولايات المتحدة مواقع غير ودودة مواجهة لأنقرة وطهران، تتقن روسيا ببراعة وبرودة تشبه صقيع مناخها فن التحالف والصداقة مع تركيا وإيران. تعرف روسيا أن السياسة هي بالنهاية فن إدارة المصالح وتدرك أن المصالح هي التي تدفع الإيرانيين والأتراك، ربما لأجل محدود، إلى التحالف مع الروس والاتساق مع أجندة بوتين في العالم.
يطل سيد الكرملين من النافذة السورية ساعيا ليكون سيّد المصير السوري وطرفه الأول أمام العالم. يذهب الرجل مذهب ما ترومه إيران لجهة الدفاع عن النظام السوري وزعيمه، وهو أمر تعمل عليه روسيا بدقة في القول والعمل، لا بل إن إستراتيجية الرئيس الروسي تعتمد على ما تمتلكه إيران من قوة داخل النظام كما لدى الميليشيات الشيعية المستوردة من أصقاع الأرض لكي تحقق برا ما لا يريد التورط به إلا جوا في الوقت الراهن.
تنقل موسكو حساب الخسائر إلى دمشق وطهران، وتحتفظ بدفتر الأرباح تجول به على عواصم العالم الكبرى. ويذهب بوتين مذهب أردوغان في رد الخطر الكردي عن حدود تركيا. يتيح اتفاق ما مقايضةٓ مدينة الباب بمدينة حلب. تركيا تستقيل من معركة المدينة وتعمل على سحب مقاتلي المعارضة القريبين منها للاتّساق مع إيقاعات “درع الفرات” التي لا تهدد نظام الأسد في دمشق، ثم تتحوّل إلى وسيط تسعى للشراكة مع روسيا في احتفالات إسدال الستارة على “فصل حلب” من العرض الكبير المستمر.
حتى إشعار آخر لم تعد سوريا صراعا دوليا، هي بالأحرى صراع إقليمي تنخرط فيه روسيا، إذا ما استعرنا زلة أوباما الشهيرة حين وصف روسيا بأنها دولة إقليمية كبرى. تبدو حركة العواصم سواء تلك التي تتجادل داخل قاعة مجلس الأمن، أو تلك التي تصدر عنها مواقف الإدانة والاستنكار والمطالبة برحيل الأسد ضجيجا مواكبا لا يقدم في المسار السوري ولا يؤخر.
وحدها مواقف موسكو وأنقرة وإيران هي التي تؤثر مباشرة على راهن الصراع كما مستقبله، وهنا سيبدو الموقف الروسي حساسا يتطلب مرونة عالية لإنجاح حال التعايش الصعب مع إيران وتركيا. للمراقب أن يلحظ أن التناقض جذري بين ما تتوسله موسكو في سوريا وما تسعي إليه كل من طهران وأنقرة.
يكفي تأمل أن روسيا تنخرط داخل الحل العسكري بالتحالف مع إيران وتبرم صفقة الحلّ السلمي في حلب مع تركيا، وكأن في الأمر الأعراض الأولى لصنّاع التسوية السلمية في سوريا على حساب المتمسكين بالحلّ العسكري الكامل للمخاض السوري.
ستقلق دمشق وطهران من فرض صفقة تُبْرَم مع تركيا تصادر خياراتهما الحلبية، وستقلق العاصمتان أكثر من احتمال اصطدامهما مع خيارات موسكو المقبلة داخل دولتهم “المفيدة” في موسم تخلي تركيا عن أي أجندة في الوقت الراهن متعلقة بمصير النظام ومصير زعيمه.
قد يستغرب المراقب موافقة روسيا على الصفقة التركية وهي في الأصل مستوحاة من مشروع قرار استخدمت موسكو ضده حق النقض في مجلس الأمن. واضح أن موسكو تريد الانسلاخ عن سطوة المجتمع الدولي ومؤسسته الأممية، ولا تريد “الخضوع” لقرار توحي به إرادة غربية.
وإذا ما يخيّل للمراقب أن تسليما دوليا مدعّما بالترامبية يجري القبول بشروطه، فإن تلك الهيمنة الروسية في سوريا، لا شك، ذاهبة إلى صدام مع إيران تارة، ومع تركيا تارة ثانية وربما مع الاثنين معا مرة ثالثة.