تدهورت مداخيل البترول في العام الذي ينصرم بشكل هائل، بدرجة جعلت الكثيرين في السعودية يتقبلون دعوة التخلي عن الاعتماد الكامل على النفط الذي أدمنوا عليه عقودًا. العلاج المقترح مرّ لكنه ضرورة لإنقاذ البلاد، وتأمين مستقبل الأجيال المقبلة، وبناء دولة أقوى واقتصاد صحي.
إعلان الميزانية الجديدة للدولة قبل أيام أيقظ الكثيرين، نحن ندخل مرحلة جديدة. فقد بدأ العمل على تقليص الاعتماد على النفط، وتقليل دور الحكومة «الأم». السعودية تنتقل، وفي روح ونص «مشروع الرؤية»، تقول إنها تعتمد كثيرًا على القطاع الخاص، اختارته شريكًا أساسيًا لها في تقديم الخدمات الرئيسية من تعليم وتطبيب ونقل وغيرها. فالنموذج الناجح هو في الدول التي لا تتكل في اقتصادها على القطاع العام.
نقل جزء كبير من المهمة إلى القطاع الخاص خطوة حكيمة، لكن المشكلة، في رأيي، أن القطاع الخاص ضعيف ولا يمكن أن يعتمد عليه ليقوم بالوظائف الكبيرة المرجوة. باستثناء شركات قليلة، البقية سوق هائلة من الدكاكين المبعثرة تعيش على مال النفط السهل. وإذا كانت الحكومة تتطلع إلى التحول لبلد القطاع الخاص الفعّال المنتج، فعليها باقتصاد المؤسسات الكبيرة. ومع تقديري لأهل الاختصاص الذين يتحدثون دائمًا عن دعم المؤسسات المتوسطة والصغيرة، كحل لتوظيف الآلاف من طلاب الوظائف، أعتقد أن الخيار الأفضل للسعودية عكس ذلك. فالتحول إلى سوق الشركات الكبرى سيسهم في تطوير الخدمات والصناعات، وسيسهل عمليات التأهيل والتدريب والتوظيف للمواطنين، وحماية السعودة التي فشلت الحكومة في فرضها على القطاع الخاص ثلاثين سنة متواصلة. الشركات الكبرى يمكن أن تقوم بتنظيم السوق وتطويرها لصالحها. والشركات ذات رؤوس الأموال الكبيرة، تستطيع إدخال التقنية المكلفة والمعقدة، والإنفاق على بناء شبكات كبيرة للتوزيع، والتوسع في أنحاء البلاد. ربما الأفضل للدول ذات العمالة الكثيفة، مثل مصر، أو ذات الاستثمارات المتدنية مثل باكستان، أن تنمي المؤسسات الصغيرة، لأنها السبيل للتوظيف بأقل قدر من التكاليف.
خيار السعودية هو التحول إلى اقتصاد الشركات الكبرى، في الإنشاءات والصناعات والخدمات الصحية والتعليمية والتقنية والفنية بما فيها الهندسة والسباكة والكهرباء. بالاستعانة بالتجارب والخبرات العالمية، واعتماد أحدث ما توصلت إليه التقنية، ستبني سوقًا منظمة وضخمة. الشركات الكبيرة تستطيع، مع الأجهزة الحكومية، أن تخدم السوق بفرض حاجاتها على القطاع التعليمي والتدريبي. ويصبح دور الدولة المهم «توليد» شركات عملاقة، من خلال تطوير الأنظمة، ومنح القروض والعقود. ولدينا تجارب قديمة وقليلة، «سابك» مثالاً، نموذج للمؤسسة الصناعية المتطورة، فيها أربعون ألف موظف، معظمهم سعوديون يخدمون في تخصصات متقدمة.
وهناك تجارب فشلت، وغالبًا نتيجة للأنظمة أو نقصها. آخرها مشروع بقالات «بنده» في الأحياء، تجربة الآلاف من محلات «الفرانشايز» المماثل للشركات الأميركية الكبرى، أخفق ربما بسبب فوضى السوق، وعدم وضع ضوابط للرخص تمكن الشركات الكبرى من تقديم خدماتها في الأحياء. والفشل دليل واضح على سوء دور المؤسسات الصغيرة حيث تحولت إلى تجارة للتستر، واحتكارات غير صحية للأجانب.
ولأن الحكومة ستظل مصدر الحياة للاقتصاد، فهي قادرة على إعادة بناء السوق من جديد. مثلاً من خلال عقودها الإنشائية الضخمة تستطيع أن تشترط نسبة من أعمالها للشركات المحلية الكبرى المتخصصة في تقديم الخدمات الهندسية والكهربية وتتولى توظيف آلاف المهنيين السعوديين بحدود دنيا للأجور، وعقود طويلة، وتضمن للمستهلكين سلامة الخدمات لسنوات بعيدة، كما يحدث في المجتمعات المنظمة.
الآن، القطاع السعودي الخاص فقير من الشركات المتخصصة الكبرى، ومعظم الموجود وكالات تجارية لا يكفي الاعتماد عليها لتأسيس سوق حقيقية منتجة ودائمة. والشركات الكبيرة لا تتعدى أصابع اليدين ويستحيل أن تستوعب مئات الآلاف من الخريجين، خاصة بعد أن قررت الحكومة أن تتخلى عن دور الموظف. فلسفة الحكومة أنها تساعدهم على التعليم، وتحفزهم على التدريب، وعليهم أن يعملوا في السوق لكن السوق بسيطة؛ آلاف من المحلات الصغيرة التي لا تؤهل، ولا تدرب، ولا تتوسع، ولا تطور.
ولأن الحكومة قررت أن القطاع الخاص شريك لها، إذن عليها نفضه، وإعادة تأسيسه. فالسوق الحالية بنيت لأغراض مختلفة وزمن آخر سابق. أرى أن تخطط وتشجع الحكومة إقامة شركات مماثلة للأسواق المتطورة، وفي كل المجالات، وطرح معظمها في سوق الأسهم كما فعلتها مع «سابك» و«الكهرباء» و«النقل». هنا يمكن للدولة أن تعتمد على القطاع الخاص ويكون دور الحكومة تنظيميًا ورقابيًا.