أزمة العقل العربي: لا العلمانيون عربوا الحداثة ولا الإسلاميون حدثوا التراث

الباحث السوري لؤي صافي يضع العرب أمام عجزهم عن بناء النموذج الحضاري الخاص.

4261

يحاول الباحث السوري لؤي صافي البحث بشكل معمّق في بنية الوعي السياسي العربي ووضع أزمة الفكر في سياق قراءة موقع العقل العربي تاريخيا وحضاريا. فقد أكد صافي أن هذا العقل إما أن يكون سجين مقولات التراث الإسلامي (الديني) وإما أنه مغترب وذائب في الآخر الغربي ذي النماذج البراقة والصالحة لمحيطه فقط، وكل ذلك جاء في كتابه الجديد “الإنسان وجدلية الوجود والوجدان”، الصادر حديثا عن دار الفكر المعاصر ببيروت.

ويشير الكاتب إلى أن الأعمال الفكرية التي تسعى إلى فهم الوجود الكلي والنظر في معنى الحياة وغاياتها في الثقافة العربية تنقسم إلى قسمين، الأول يتألف من أعمال تنطلق من التراث وتسعى إلى بناء تصور كلي للوجود، والثاني يشمل مقولات منقولة عن فلسفات غربية، دون تقديم جهد كاف لمعارضتها بالأطروحات التراثية.

ويركّز الباحث السوري على أن انقطاع التراث كان نتيجة لتراجع التيار العقلي، مما زاد من صعوبة قيام حوار نظري بين التراث العربي الإسلامي والحداثة الغربية التي قادت دوائر التفكير العالمي خلال القرنين الأخيرين، ورأى أن ما زاد الصورة تعقيدا هو سعي المفكرين العرب خلال القرن الماضي إلى تبني الفلسفات اليسارية الماركسية والليبرالية الغربية واعتمادها لبناء مجتمع عربي حديث دون النظر في العناصر التكوينية للثقافة العربية وسياقها الاجتماعي التاريخي.

وينتقد المؤلف العقلية التقليدية، سواء التراثية منها أو العلمانية، بشقيها اليساري والليبرالي، التي تعمل على استنساخ النماذج الناجزة في وعي الإنسان العربي المعاصر، وكتب يقول إن “التقليد المعرفي بشقيه الإسلامي الذي يسعى إلى إحياء النماذج التاريخية، والعلماني الذي يعمل على استعارة النماذج الغربية الحداثية بتفاصيلها الثقافية والاجتماعية، أصبح الممارسة اليومية لأعداد مؤثرة من المثقفين المعاصرين”. ويشدد صافي على أن القاسم المشترك بين التيارين الفكريين المتصارعين في المجتمع العربي المعاصر، أي التيار الإسلامي والتيار العلماني رغم الاختلاف الكبير في المضمون الفكري الذي يحتكمان إليه، هو “الإصرار على عملية الاستنساخ المعرفي من جهة، والرغبة في تبني الأشكال التنظيمية والخطابية الحداثية من جهة ثانية، وذلك نظرا لفاعلية هذه الأشكال ونجاعتها وقدرتها على تشكيل الحياة المعاصرة”.

ويرى أن الحركة العلمانية، لم تتمكن من نقل المضمون الفكري الغربي وتنزيله في شكل حداثي يتطابق فيه الشكل مع المضمون، بل أسقطت المضمون الغربي على بنية العقل العربي التقليدية، والنتيجة مؤسسات وعلاقات مقتبسة من المجتمع الحداثي الغربي، تملك شكلا غربيا أُنزل قصريّا على مضمون ثقافي يعكس لحظة التخلف في التاريخ العربي الحديث، وهذا التناقض يظهر واضحا برأيه “في مؤسسات الدولة الحديثة والنماذج السياسية الحديثة، التي تحولت إلى هياكل خاوية من المعاني الذي أنشئت لتحقيقها، فالنظام النيابي الحديث يتبنى أشكال الانتخاب الديمقراطية، ولكنه يعكس ممارسات سلطانية تعود إلى المراحل المتأخرة من الثقافة السياسية التاريخية، وبالمثل فإن المؤسسات الاقتصادية والتجارية الحديثة غالبا ما توظف من قبل العاملين عليها للثراء الشخصي ولم تتمكن بعد عقود من اعتمادها من تطوير الحياة الاقتصادية والصناعية في البلدان العربية”.
لؤي صافي: الحركة العلمانية لم تتمكن من نقل الفكر الغربي وتنزيله في شكل حداثي

وبالمقابل يجد الكاتب أن التيار الإسلامي يتبنى مضمون التراث التاريخي ولكنه يسعى إلى تنزيله على أساس معاصر يتناقض معه في مستوى المقاصد والتكوين “فحركات الإسلام السياسي تتبنى نظريات الأحكام السلطانية التي طورها الفقهاء التاريخيون في القرون الأولى للإسلام، ولكنها تعمل على تنزيلها على بنية سياسية حداثية، وبالتحديد الدولة المركزية التي تتولى السلطة السياسية فيها مهمة تنظيم الحياة”، فحركات الإسلام السياسي هذه “لا تدعو إلى عملية تشريعية يرتبط فيها القرار التشريعي بالإرادة الشعبية الممثلة في المجالس النيابية، بل تصر على تطبيق الشريعة الإسلامية وفرضها على المجتمع السياسي وفق مؤسساتها التاريخية”.

ويستنتج صافي أن عدم فقه العلاقة بين الشكل والمضمون وغياب الوعي التاريخي، يمنعان حركات الإسلام السياسي من إدراك أن الشريعة تطورت عبر التاريخ في أحضان المجتمع المدني المسلم، وبعيدا عن دوائر الدولة والسلطة السياسية وأنها على العكس من الفهم الشائع في الدوائر الدينية المعاصرة، تطورت في البعض من جوانبها لمنع تغوّل السلطة السياسية وتسلّطها على المجتمع.

وفي كلا الحالتين، فإن العنصر المفقود برأي الكاتب هو وجود بنية فكرية ونظرية للوعي الفردي والجمعي تسمح بالتعاطي مع النموذجين التراثي والحداثي، وإعادة تشكيل مفردات الوعي التراثي من خلال ربطها بخصائص اللحظة التاريخية الراهنة، وأن هذه البنية الفكرية والنظرية للوعي تم تدميرها ببطء وبخطوات متدرّجة عبر التاريخ الإسلامي، إلى أن اختفت نهائيا خلال القرون القليلة الماضية، وأدى الصراع التاريخي بين منظوري الرأي والحديث إلى تراجع الأول، ولتتحول البنية المعرفية للوعي الجمعي للمجتمعات العربية والإسلامية إلى بنية فكرية لا تمتلك القدرة على ربط الذات بسياقها التاريخي وفضائها الجغرافي. وهذا ما ولد رؤية أحادية لا تستشعر أهمية ربط القيم الرسالية بخصوصيات الزمان والمكان، بل تعيد إنتاج الفكر التاريخي بلغة وصفية معاصرة. ويسلط الكاتب الضوء على سعي المجتمع العربي والإسلامي في القرون الأولى للحضارة الإسلامية إلى تطوير مقاربة فكرية نظرية لفهم النصوص والوقائع، وأعمال المدرسة الفلسفية الإسلامية ثم المدرسة المعتزلية الكلامية والمدرسة الأشعرية، وتحالف المدرسة المعتزلية مع البيت العباسي، وممارساتها التي ولّدت الحركة السلفية الحديثية، ومن ثمة أدت إلى اختفاء الفكر النظري، بشكليه الفلسفي والكلامي.

كما يتطرق إلى محاولات البعض من المفكرين المعاصرين خلال العقود الثلاثة الماضية، توليد حوار داخلي بين الأطروحات التراثية التاريخية والحداثية المعاصرة، كمحاولات مالك بن نبي، ومحمد عابد الجابري، وحسن حنفي، ومحمد أركون، وعبدالوهاب المسيري، والتي رأى أنها اقتصرت على التحليل النقدي للتراث أو الحداثة أو كليهما دون تقديم مقاربة نظرية جديدة على المستويات المعرفية والوجودية والأخلاقية، وشدد على أن غياب مشروع فكري يوافق بين التراث الفكري التاريخي وبين المساهمات الفكرية الحداثية، يُمثّل تحديا كبيرا للجهود الإصلاحية اليوم.

ويرى الكاتب أن مهمة كتاب الإنسان وجدلية الوجود والوجدان، هي خلق فضاء فكري يسمح بتقييم الفكرين التراثي والحداثي، وهو ما يتطلب “تطوير بنية داخلية لهذا الفضاء لتمكينهما من تقديم رؤية كلية لمعنى الوجود الإنساني وبنية الوعي والفكر والشروط النظرية والتاريخية لقيام فعل حضاري يبدو اليوم أنه غائب كليا عن الواقع العربي.

يتعامل لؤي صافي مع مفاهيم فكرية تأسيسية ويسعى إلى تطويرها إلى مقاربة نظرية تتعاطى مع الدائرة المعرفية الأوسع، دائرة الوجود بكل أبعاده، بعيدا عن الاستفاضة والتبسيط، كما يسعى إلى تطوير رؤية مركبة تُوظّف المفاهيم المعرفية التراثية والحداثية وتربطها بسياق الوعي التاريخي، وإلى تطوير فهم متقدم لبنية الفكر وآلياته النظرية، وفتح الباب للحوار الثقافي في دائرة وعي الذات العربية، ويضع المعالم الأساسية لتحديد بنية الذات الإنسانية وصيرورتها الزمنية الضرورية لفهم الإنسان ومهمته التاريخية أولا، وفهم العلاقة بين الوعي الديني الذي يعود من جديد لتوجيه حركة التاريخ .