كلينتون – ترامب: أين يلتقيان وأين يفترقان في العالم العربي؟/محمد قواص

المزاج الأميركي المتغير نحو ملفات الشرق الأوسط تغير أيضا في قضاياه الداخلية، حيث يرسم السباق نحو البيت الأبيض تحولا في المجتمع الأميركي، ما يسفر عن حالة لاستيعابه برامج لدونالد ترامب المحافظ، كما أن الناخبين قد لا يجدون أن هيلاري كلينتون تملك رؤية جديدة عن تلك التي استخدمتها إدارة أوباما.

3007

واشنطن – يلفت أحد المشتغلين على قضايا المجتمع الأميركي انتباهي إلى أن الولايات المتحدة تتحوّل إلى “أمة”، وأنها تغادر موقعها الولاياتي (نسبة إلى ولايات) باتجاه عصبية واحدة تتأسس على حكاية واحدة تكثّفت حبكتها منذ 11 سبتمبر. ويلفت انتباهي أيضا إلى أن المجتمع، وفي رحلة البحث عن تكوّنٍ هوياتي، يتحلى بدينامية نشطة تجعله مادة مرنة في استيعابه لظاهرة باراك أوباما، كما استيعاب الظاهرتين المتناقضتين، برني ساندرز الديمقراطي الاشتراكي ودونالد ترامب المحافظ المتطرّف.

المشتغلون على الاقتصاد يلاحظون أن عملية إنتاج الثروة باتت محدودة وأن العقل الأميركي الحاكم يجتهد لتوفير مصادر أخرى مدرّة للمال، وأن ذلك تماما ما يجعل الولايات المتحدة بحاجة إلى سياسة خارجية تطل على العالم أجمع تبرر انتشار قواعدها العسكرية في هذا العالم. وهي، وإن لم تعد رهينة الحاجة إلى الطاقة من الخارج، إلا أنها تسعى، وحتى إشعار آخر، إلى السيطرة على طرق تسويق الطاقة وتأمين منافذها، لكن وفق الخرائط التي تصبّ مباشرة داخل استراتيجياتها.

في واشنطن من يحيل أمر الصراعات في منطقة الشرق الأوسط إلى هذه الفلسفة فقط. الصراع في أفغانستان أو ذلك في العراق بعد 11 سبتمبر سببه مرتبط بسوق الطاقة وإمدادات الغاز، وحتى الصراع الحالي في العراق وسوريا يدور حول تنافس بين غاز قطري يروم الوصول إلى أوروبا عبر سوريا وغاز روسي يسعى إلى إجهاض ذلك. ومع أن في الأمر تبسيطا لا يأخذ بعين الاعتبار حقول الغاز في المتوسط (إسرائيل، لبنان، سوريا، قبرص) والغاز المصري، إلا أن قطاع الغاز يجب أن لا يغيب عن المتابع ليوميات التحوّلات الجارية في المنطقة.

يقول روبرت كينيدي جونيور، نجل السيناتور روبرت كينيدي الذي أغتيل على يد الفلسطيني سرحان بشارة سرحان عام 1968، في مقال مطوّل في صحيفة الـ”بوليتيكو” الأميركية، إنه بسبب هذا الحدث راح يبحث عن جذور هذا الكره الذي تضمره المنطقة العربية للولايات المتحدة. وقد أجاد في مقاله شرح الخلفيات والأصول وانتهى إلى دعوة واشنطن إلى التوقف عما أسماه “الإدمان المدمر على النفط” الذي يملي شروطه على سياسة الولايات المتحدة الخارجية.

يشير إليّ أحد الأكاديميين الأميركيين أن المجتمع الأميركي يتغيّر، يستمع بانتباه إلى أطروحات برني ساندرز الاجتماعية، لكن الولايات المتحدة ليست جاهزة لذلك، فيلفظه، ويكتفي بالتنافس الحالي بين هيلاري كلينتون التي تمثل اليسار الوسط (ولا سيما بعد ما حققه ساندرز) ودونالد ترامب الذي يمثل اليمين المحافظ مع شطط صوب التطرّف بعد إبعاده لتيد كروز.

تموضع الولايات المتحدة الجديد في الشرق الأوسط أصبح مرتبطا بالكيفية التي ستتعامل بها الإدراة الأميركية مع روسيا

لكن في كلا الحالتين، فإن المرشحيْن ينظران بأولوية إلى سياسة بلادهم في الخارج، والتي تأخذ حيّزا واسعا من حملتيهما الانتخابية، علما أن الحملات قبل ذلك كانت تركّز على شؤون الداخل فقط، وتلك علامة أخرى من علامات تبدل مزاج الأميركيين وتغيّرهم.

ولمن يراقب مضمون خطابي كلينتون وترامب، سيلاحظ أنه رغم اختلاف المدرستين، فإن المضمون ليس محددا لأهواء الناخبين بقدر تأثرهم بالشكل الدرامي الذي يتقدّم من خلاله المرشحان. وربما إن الأداء المسرحي المتقن، هو الذي يقف وراء صمود ترامب على الرغم من الضغوط التي تمارسها ضده مؤسسات الإعلام وتحرّك شخوص هوليوود. فالملياردير النييوركي، سليل جد مهاجر، لا يخجل من الإفصاح بلغة شعبوية بسيطة عن كرهه للهجرة والمهاجرين، أي كرهه لتلك “المصائب” المستوردة مما وراء الحدود.

وفي الكلام عن هذا الخارج تناول ساخن لشؤون الشرق الأوسط. أولا لأن للولايات المتحدة تاريخا من الانخراط في تلك المنطقة، وثانيا لما تضخّه المنطقة من قلاقل وموجات إرهاب تهدد أمن الولايات المتحدة، وفق رواية المرشحيْن، والتي قد يجد المراقب أنها زعم للاستهلاك الانتخابي فقط.

معادلة واشنطن – موسكو

يتفق ترامب وكلينتون على الاستمرار في ضمان أمن إسرائيل، فتلك ثابتة، تكاد تكون عقائدية في مقاربة واشنطن لتل أبيب. تعبّر الديمقراطية عن استمرار لسياسة الإدارة في هذا، فيما يزايد ترامب على عزمه نقل سفارة بلاده إلى القدس في لازمة يكررها المرشحون تقليديا إرضاء للناخب اليهودي. على أن أحد الباحثين يلحظ أن تموضع الولايات المتحدة الجديد في الشرق الأوسط أصبح مرتبطا بالكيفية التي ستتعامل بها الولايات المتحدة مع روسيا- بوتين في المنطقة. هنا فقط يبرز هذا الجديد في إطلالة الولايات المتحدة على هذا الملف.

يخبرني أحد الباحثين في شؤون الأمن الأميركي أن بلاده لن تلجأ إلى استخدام القوة الباطشة، بل سيبدأ الاعتماد على ما تسميه كلينتون بالقوة الذكية كمصطلح جديد يقع بين القوة الناعمة والقوة الصلبة. على أن الواقعية التي تحتل لبّ العقيدة الأمنية لكلينتون وترامب في العالم تتباين بين ما تلمح له هيلاري من مواجهة لموسكو وبين ما يجاهر به دونالد من اتفاق معها. وإذا ما كانت كلينتون تتحصّن بخبرة في السياسة الخارجية منذ أن واكبت زوجها الرئيس انتهاء بشغلها منصب وزيرة الخارجية داخل الإدارة الحالية، فإن مراقبين يحذرون من أن تشكّل هذه الورقة عنصرا سلبيا ضدها، من حيث أنها كانت شريكة في ما يمكن لمنتقدي أوباما سياسة خارجية مثيرة للجدل تميل نحو الفشل في الشرق الأوسط. ثم إن كلينتون تمثّل امتدادا لفكرة الزعامة الأحادية للعالم، فيما ينحو ترامب نحو التخلي عن ذلك لصالح شراكة متعددة تفسّر خطابه المتفهم لموسكو، والمعجب بفلاديمير بوتين.

قد يبدو انتخاب هيلاري كلينتون قابلا للقراءة، فيما لا أحد يدري كيف ستكون عليه الولايات المتحدة إذا ما دخل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض

لا يمكن التسليم بنص واضح لاستراتيجية ترامب في السياسة الخارجية. يطل الرجل على مسائل العالم من منبر الحملة الانتخابية ولوازمها. يرتبك في الخروج برأي بالنسبة إلى الشأن السوري ويختلف مع نائبه المرشح مايك بنس الذي دعا إلى استخدام القوة ضد نظام بشار الأسد. فهو يدعو إلى ضرب داعش، وهذا من أبجديات كل الطبقات السياسية، لكنه لا يجد أولويات لإزاحة الأسد، ولما لا الاتفاق معه. في المقابل تبدو كلينتون حازمة في خططها للتعامل مع داعش ودمشق وموسكو، رغم أن المراقبين لا يجدون أنها تملك حلولا بديلة عن تلك التي استخدمتها إدارة أوباما، طالما أنها أيضا ترفض انخراطا عسكريا مباشرا، وترفض اتخاذ إجراءات (كتسليح نوعي للمعارضة) يعيد الحرب الباردة مع موسكو، والتي قد تنزلق نحو السخونة نتيجة أي حادث يقع بين القوتين العاملتين هذه الأيام في نفس الميادين.

على أن باحثين عربا يواجهون ضبابية في فهم غياب الولايات المتحدة عن لعب الدور الذي تبرّعت به في الشرق الأوسط، ويرون أن واشنطن تطوّعت للعب دور الشرطي في المنطقة بحيث تحدد مآلات الأمن في شمال أفريقيا ومنطقة الخليج والعراق، ناهيك عن ذلك المتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي وآفاق الصراع في ليبيا، إلخ. ومع ذلك، وفجأة، تتوقف واشنطن عن لعب هذا الدور دون أن تسمح بتفعيل بدائل إقليمية أو دولية أخرى.

وفي مظاهر الغرابة إن الإدارة الأميركية التي تحرّكت لوقف المجازر في البوسنة وغيرها في عهد يوغسلافيا السابقة (وقيل وقتها أن بيل كلينتون الذي لم يكن يريد هذا التدخل أُجبر على ذلك لأسباب أخلاقية)، تتعايش اليوم عادية ومقززة إزاء الكارثة الإنسانية في سوريا.

تغيير في الداخل والخارج

في الأسئلة التي طرحتها على عاملين بالإدارة الأميركية أو داخل المؤسسات البحثية أو على المراقبين لشؤون السياسة الخارجية ما ينتج أجوبة عما تمارسه واشنطن حاليا أو الذي مارسته قديما، لكن عتمة كاملة تطغى على ما ستقوم به أيّ إدارة مقبلة لإدارة الملفات الخارجية المتراكمة، حتى أن أحد الأكاديميين الأميركيين اختصر لي الموقف بقوله “تغيرت الولايات المتحدة من الداخل وتغيّر موقع الولايات المتحدة في العالم”، مضيفا “يكفي تأمل سلوك الرئيس الفلبيني إزاء واشنطن، ويكفي تأمل الأجندات الإقليمية في الشأن السوري التي في أغلبها تعمل لحسابها ضاربة عرض الحائط بالمزاج الأميركي”.

لذلك، وبسبب هذا الوضع الملتبس الانتقالي قد يبدو انتخاب هيلاري كلينتون قابلا للقراءة، فيما لا أحد يدري كيف ستكون عليه الولايات المتحدة إذا ما دخل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.