لم يبق شيء لم يُتهم بإفشال «ربيع العرب»، بما في ذلك تعثرهم الفلسفي! فأين صرنا؟! وأين فلسفة تغيير مجتمعاتنا؟ الوصول إلى مثل هذه النظرية فيما يبدو، أصعب حتى من الإجماع على «المستبد العادل» الذي أعيانا البحث عنه! اعتاد الظرفاء في الماضي أن ينقدوا مجادلات الفلاسفة، وأن يعتبروا معاركهم التي لا تنتهي في تحديد المفاهيم، وتعريف الأشياء، وغموض الأفكار والأهداف، بأنها تشبه البحث عن قطّة سوداء في غرفة مظلمة. غير أن بحثنا العتيد، والخوض في الفلسفة المعاصرة في المقابل، قد يشبه البحث عن قطّة بيضاء.. في حقل قطن!
انتهى الزمن الذي كان الفرد العادي فيه من رواد المكتبات ومحبي القراءة، يمسك بكتاب لفيلسوف إنجليزي، أو ألماني، أو فرنسي، ويطالعه بشغف، ويفهم الكثير مما فيه، كما كان حالنا مع «برتراند راسل» وشوبنهاور و«سارتر» مثلاً.
فاليوم «اختفى» الفلاسفة خلف الأحاجي اللغوية والحواجز النظرية، وازدادت عزلتهم في أبراجهم العاجية أو الزجاجية، وصار الكثير من جهدهم معروفاً لا في تحديد الأفكار وتجديد المفاهيم، بل في معالجة اللغة ومدلول الكلمات، ونقد النقد، وتحديد معنى المعنى!
صدر قبل أعوام في بيروت كتاب لمجموعة من الأكاديميين يقدم خمسين فيلسوفاً للقارئ العربي، من الفلاسفة الذين صنعوا الفكر الغربي. الفلسفة، قال الأستاذ «علي حرب»، المفكر اللبناني المعروف، في مقدمة الكتاب، «يعاد اليوم ابتكارها وتشكيلها، شأنها في ذلك شأن كل فني ومضمار أنها تمارس على نحو جديد يحررها من نموذجيتها الأصولية، ومن عقلانيتها الشكلية أو من يقينيتها الدوغمائية».
وقال مضيفاً المزيد من الغموض: «ليست الفلسفة يقيناً يعطينا الأجوبة الشافية عن الأسئلة. إنها لا تقدم مفتاحاً لحل جميع المشكلات وتجاوزها، ولكن بإعادة صوغها من جديد. هكذا، لا نقرأ العمل الفلسفي اليوم لكي نستخلص منه المذهب، أو النسق، أو المدرسة، بل لكي نتعرف إلى أدوات الفهم وأصعدته، ولا نقرأه لكي نعثر على حلول للمشاكل المطروحة، بل نقرأه لكي نعرف أين وصل الإشكال».
كانت الفلسفة في الماضي ملاذ العلوم، والحاضنة الفكرية الحنون لخلايا «العلوم الجديدة النائمة»! ولم يعد الأمر كذلك اليوم فيما يبدو. وكانت علوم عدة منضوية تحت مظلتها الواسعة وظلالها الوارفة، إلا أن هذه العلوم استقلت، وصار لها كيانها المستقل منذ فترة طويلة. وكانت العلوم الطبيعية والرياضيات وربما الموسيقا من بين اهتمامات الفلاسفة، وصارت اليوم هذه العلوم بعيدة كل البعد عن تخصصات الفلاسفة أو مدرسيها في الجامعات.
تحدث المفكر المصري محمود أمين العالم متسائلاً عام 1965 في مقال: «ما هي الفلسفة؟» واستعرض بدايات الفلسفة ثم قال: «كانت الفلسفة آنذاك تحتضن الإرهاصات الأولى للعلوم الرياضية، والطبيعية، والفلكية، والنفسية، والاجتماعية إلى غير ذلك. ثم أخذت العلوم تنضج من الناحية التجريبية، وتتخذ لها موضوعاتها الخاصة المتميزة شيئاً فشيئاً، حتى استقلت تماماً عن الفلسفة.
ولكن لماذا استقلت العلوم، ولماذا نسمي هذا نضجاً؟ ألا يعني هذا إدانة لارتباطها السابق بالفلسفة. لقد استقلت العلوم بفضل منهجها التجريبي أساساً، بفضل وضوح موضوع محدد لها، بفضل احتياج هذا الموضوع المحدد أن يتميز عن بقية موضوعات العلم البشري، وأن تتكشف قوانينه الأساسية، بفضل ما يحتاجه هذا الموضوع المحدد من جهود خاصة متميزة». (قضية الفلسفة، تحرير محمد كامل الخطيب، دمشق 1998، ص 71).
العديد من المفكرين والمحللين السياسيين يرون أن تدهور وفشل «الربيع العربي» كان بسبب غياب الأرضية والمضامين الفلسفية لحركة الجماهير، فالناس كانت تعرف ما لا تريد ولا تجمع على ما تريد!
ولكن الاختلاف والتنازع والقتال وقع حتى في صفوف الفئات التي تزعم أنها تعرف جيداً ما تريد.. كالتيار الديني، فهل كان الهدف الواضح سيمنع الانقسام؟
أصدر مركز دراسات الوحدة العربية عام 2002 مجموعة دراسات في مجلد واحد ضم أعمال ندوة بعنوان «الفلسفة في الوطن العربي في مائة عام». أعمال الندوة سلّطت الأضواء على التقصير العربي الكبير في المجال الفلسفي، حتى في مجال كتابة تاريخ الفلسفة. فـ«تلك المحاولات التأريخية ليست شاملة ولا كاملة، فضلاً عن أنها كتبت بنظرة يغلب عليها النزعة الغربية والمنظور الغربي».
وقال أستاذ الفلسفة الأردني د.محمد أحمد عواد مضيفاً في ورقته: «هناك إجماع بين الدارسين على أن الإبداع هو الإتيان بالجديد. فالفلاسفة العرب كانوا على وعي بهذه المسألة. والمشكلة التي واجهتهم هي كيفية توضيح العلاقة بين الفيلسوف وتاريخ الفلسفة، فالقضية هي أن هناك فئة من الفلاسفة انتموا إلى تيارات فلسفية عالمية، مثل الوجودية، أو الشخصانية، أو الوضعية المنطقية، فالجيل الأول من الفلاسفة العرب في أغلبه كانت علاقته بتاريخ الفلسفة بالشكل الذي وصفناه، ومن ثم هناك مديونية مباشرة لهذه التيارات، وهذا الدين يختلف من فيلسوف لآخر. فهل يعتبر هؤلاء مبدعين؟ كيف نصفهم بالإبداع، وهم لم يأتوا بالجديد، وإنما نقلوا إلينا فلسفات من هذه التيارات؟». (ص 107).
شهدت اليونان، بلد الفلاسفة، حدثاً بارزاً قبل فترة قصيرة، في مايو 2016، وهو «اكتشاف قبر أرسطو»، كبير فلاسفة العصور القديمة. وقال الآثاري اليوناني «سيسمانيديس» إنه متأكد مئة في المئة تقريباً من «أن السرداب ذا القبّة البالغ عمره 2400 سنة، الذي اكتشفه خلال حفرياته، هو مدفن أرسطو الفيلسوف الذي ينسب إليه علم المنطق، تلميذ أفلاطون الأول، ومعلم الإسكندر الأكبر.
ومن المعروف أن أرسطو «أثر في الفلاسفة الإسلاميين فلقبوه بالمعلم الأول، وكان الفارابي هو المعلم الثاني، وشرحوا فلسفته وأخذها عنهم الغرب، فساعدوا بذلك على نقل الفكر اليوناني إلى أوروبا»!، (الموسوعة العربية الميسرة، 2001). هل لدى مفكري وفلاسفة العرب تصور واقعي متبلور للدولة المطلوبة بعد ثورات 2011؟، وهل الفلسفة قادرة على بلورة النموذج المطلوب وإقناع الشعوب بها؟
هل الفلسفة حقاً كانت أو لا تزال.. طوق نجاة الربيع المفقود!