يعَد كتاب الباحث والأكاديمي البحريني الدكتور عبدالله المدني، «النخب في الخليج العربي: قراءة في سِيَرها»، وثيقة تاريخية ثقافية مدهشة، عن عطاء هذه المنطقة وتجارب روادها، ودورها المغمور إعلامياً في الوسط العربي. كما أن الكتاب إعادة اكتشاف للتطلعات الحداثية والليبرالية التي نبتت وازدهرت من خلال مختلف مؤسسات التعليم والفن والتجارة والترحال والصناعة والاستثمار، والانفتاح على ثقافات كثيرة، وبخاصة القارة الهندية، ذات الأثر الواضح في كل الثقافة الخليجية، حيث اختار الكثير من التجار وغيرهم الإقامة والتجارة هناك. وقد اختار البعض البحرين والكويت والعراق والشام، وآثر آخرون الهند، ومنهم «حمد سليمان البسام»، الذي ترك «عنيزة» بنجد إلى مدينة «كلكتا» الهندية.
لكن لم وقع اختيار الكثير من المهاجرين والمستثمرين الخليجيين على الهند؟ يقدم الدكتور المدني تفسيراً وافياً لهذا المنحى، فيقول: كان هذا الاختيار «لأسباب وعوامل عديدة، منها أن الهند كانت في نهاية القرن التاسع عشر المركز التجاري الاقتصادي الأهم في عموم آسيا، بل وأيضاً الملجأ الآمن للتجارة مع بلدان الخليج والجزيرة العربية. ناهيك عن أنها كانت وقتذاك مستقرة لأن حركة المطالبة بالاستقلال والتقسيم لم تكن قد تبلورت بعد. ومنها أيضاً بيئة الهند المتسامحة المرحِّبة بالعرب والمسلمين. ناهيك عن قوتها البشرية الهائلة والمساحات الزراعية الضخمة فيها، والصناعات التي راحت تغزوها، وتوفر وسائل المواصلات البحرية منها إلى بلدان الخليج والجزيرة وبالعكس، وغير ذلك من المغريات التي حفزت تجار الخليج والجزيرة العربية على اتخاذ الهند البريطانية مسرحاً ومقراً رئيساً لممارسة أنشطتهم التجارية المتنوعة في تصدير المواد الغذائية ومواد البناء والأقمشة وغيرها إلى بلدانهم، واستيراد اللؤلؤ والتمور وغيرهما من المنطقة للمتاجرة بها في أسواق الهند الكبيرة». (ص 291)
كتاب المدني من أندر الكتب من ناحية عدد المداخل والمقدمات! فالسِّفر الضخم الواقع في 770 صفحة، والذي يترجم لأكثر من مائة شخصية خليجية، وحتى بعض الغربيين ذوي العلاقة، له خمس مقدمات، كتبها المؤلف والكاتب الإماراتي محمد أحمد المرّ، والدكتور عبدالله عبدالرحمن يتيم من البحرين، والدكتور محمد غانم الرميحي من الكويت، والدكتور أحمد عبدالملك من قطر.
قائمة شخصيات الكتاب تشمل أسماء وتجارب من كل دول مجلس التعاون. فمن البحرين مثلاً هناك إبراهيم عبدالحسين العريف، وأحمد إبراهيم الذوادي، وعيسى بن راشد آل خليفة، ومن دولة الإمارات هناك أحمد خليفة السويدي، وخلف أحمد الحبتور (الملياردير الذي بدأ براتب قدره 250 روبية)، والكاتب الإعلامي الراحل تريم عمران تريم، ومن المملكة العربية السعودية هناك سليمان بن صالح العليان، والفنان ناصر قاسم القصبي، ورائد التعليم محمد طاهر الدباغ، ومن الكويت هناك عبدالعزيز حسين (أحد بناة الكويت الحديثة)، ومبدع النشيد الوطني أحمد مشاري العدواني، والتاجر عبدالكريم أبل، ومن قطر هناك عبدالله بن إبراهيم الأنصاري (يقدمه المؤلف بصفته «خادم العلم ومدير أول مدرسة حديثة في قطر»)، وعيسى غانم الكواري، والشاعر الذي تتنازع ملكيته البحرين وقطر» عبدالرحمن المعاودة، ومن عمان هناك الشاعر سعيد بن أحمد البوسعيدي، والفنان سالم راشد الصوري، ورجل الأعمال سعود سالم باهوان صاحب الأعمال الخيرية.
قدّم المدني شخصيات الكتاب بعناوين شيقة تلخص أبرز جوانب عطائهم وما كرسوا حياتهم له أو ما برزوا فيه. فهو يقدم السعودي إبراهيم القاضي بعنوان «الأب الروحي للمسرح الهندي، سعودي من القصيم»، وقد تزوج والده في الهند من فتاة من أسرة «النصار» الكويتية، «أنجبت له ثمانية من الأبناء والبنات لعلّ أهمهم إبراهيم، أحد أساطير المسرح الهندي الحديث». والدهم حمد القاضي، «كان يسكن في شقة ضمن مبنى يضم خليطاً من الهندوس والمسلمين واليهود والإنجليز والفرس وطائفة عبدة النار، وكانت العلاقات بين هذا الخليط جيدة ومتماسكة».
ومن شخصيات الكتاب «المؤسس الأول للصحافة في الإمارات إبراهيم بن محمد المدفع الحارثي، من أبناء الشارقة، وقد ارتبط اسمه بظهور أول صحيفة في الإمارات قبل 85 عاماً وكانت تدعى صحيفة عُمان». وكان الحارثي كبقية مؤسسي الصحف في المنطقة يقوم بالكثير من مستلزمات صدور الصحيفة. وكان «يحررها بنفسه وبخط اليد، مستخدماً حبراً كانوا يسمونه (النغر الأحمر) ويستخرجونه من سمك الحبّار، حيث كان المدفع ينتج من هذه الصحيفة البدائية خمس نسخ يعلق واحدة في وسط مدينة الشارقة كي يطلع من يجيد القراءة على محتوياتها، فينقلها إلى الآخرين شفاهة، ويوزع النسخ الباقية على شيوخ البلاد وبعض أصدقائه».
ومن شخصيات الكتاب القطري وليد «بُمبي» «أكبر الباكر» الذي وُلد لأم هندية وأب قطري، وكان يعمل في شركة خاصة، وهو الآن المدير التنفيذي للخطوط الجوية القطرية.
ومن الشخصيات التي توقف عندها المدني الشاعر ورجل الأعمال وحارس الشعر والتراث العربي «عبدالعزيز سعود البابطين»، ويقدمه الكتاب قائلاً: «من تاجر للنوفوتية والتبغ إلى عَلَم من أعلام الثقافة» في الكويت.
ويضم الكتاب شخصيات خليجية بريطانية، كالرحالة الشهير مبارك بن لندن أو «ويلفرد ثيسيغر»، عابر الربع الخالي، و«تشارلز بلغريف» الذي لعب أدواراً سياسية مهمة في البحرين ودار حوله جدل واسع في صراعه مع التيار القومي فيها.
تعهد المؤلف في المقدمة بـ«إدراج سير شخصيات من الجنسين من دول الخليج العربية الست».. ويظهر الفهرس بوضوح طغيان عدد الرجال على السيدات، حيث احتوى الكتاب على عدد قليل جداً منهن، وهن السيدات سارة أكبر وفاطمة حسين ولولوة عيسى القطامي وخولة سامي الكريع والدكتورة حياة سليمان السندي وتوجة وابتسام لطفي «أول فتاتين اقتحمتا عالم الغناء في السعودية».
بهذا الكتاب نجح المدني في أن يبعث روحاً حية متحدية ومتجددة، وهذا ما يلمسه القارئ مباشرة.
نقلا عن الاتحاد