حزب الله سيعيد التعايش مع منطق الدولة بعد انتخاب الرئيس بما قد يسبب احتكاكا مع منطق اللادولة في سلوكه وأدائه. صحيح أن عون حليف وفيّ لم يخلف وعدا مع حزب الله، لكن ‘النيران الصديقة’ واردة بين ثقافة الرابية وثقافة الضاحية.
من الجائز السؤال عن سرّ إهمال الطبقة السياسية اللبنانية برمّتها لنداءات رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري من أجل التفاهم على سلّة تسويات يأتي من ضمنها انتخاب رئيس للجمهورية.
بدا طرح زعيم حركة أمل منطقيا في السياق اللبناني المشوّه منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، من حيث أن انتخاب الرئيس لا يحلّ المشكلات الحقيقية للبلد إذا لم يتواكب مع تفاهمات حول اسم رئيس الوزراء وتشكيلة الحكومة وتوزيع الحصص داخلها، إضافة إلى الاتفاق على قانون جديد للانتخابات لإنتاج البرلمان المقبل.
بُحّت حنجرة الرجل فلم يأبه لنداءاته لا الخصوم ولا الحلفاء. قيل حينها إن بري يحاول تمرير المؤتمر التأسيسي الذي سبق للسيّد حسن نصرالله، زعيم حزب الله، أن دعا إليه، وأن “السلّة” كما “المؤتمر” سعي للانقلاب على “الطائف”، وأن مبادرة بري تعقّد أمر انتخاب الرئيس وليست تسهيلا لذلك الاستحقاق.
كان ذلك تفسير الخصوم لسلّة نبيه بري. لكن لا أحد من الحلفاء، بما فيهم حزب الله والتيار الوطني الحرّ، رحّب بمقاربة رئيس البرلمان، ذلك أن ما يهمُّ التيار هو انتخاب زعيمه رئيسا دون فذلكات مربكة، وما يهم الحزب لا يرتبط بأي همّ لبناني محلي، بما في ذلك انتخـاب رئيـس في هذا الوقت للبنان.
والمفارقة أن رفض سلة بري من قبل تياريْ “المستقبل” و“الوطني الحر” جاء من أجل إنجاح سلّة أخرى تمت خياطتها بين جبران باسيل ونادر الحريري، على ما يفسّر غضب بري، الممسك دائما بمفاصل الحياة السياسية اللبنانية، والذي صحا ذات فجر على صفقة كبرى تنهي الشغور القياسي لموقع الرئاسة دون أن يكون له “لا ناقة ولا جمل”.
يحاول الرئيس بري تقديم تفسير ينقذه من هذا الحرج، فيكشف أن صفقة سعد الحريري وميشال عون ليست محلية، بل هي نتاج تسوية جرت خلف الكواليس بين الولايات المتحدة وإيران. لم يتقاطع كشف بري مع أي تحليل معتمد محليا وإقليميا، وحتى دوليا، على نحو يجعل من تلك المعلومة دون سند في الوقت الراهن قد تتأكد مصداقيتها لاحقا.
فوزير الخارجية الأميركي جون كيري، حين سُئل عن الأمر، قلل من شأنه وشكك في احتمال نجاحه وبدا جاهلا له. وحين طرحتُ السؤال داخل وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن قبل أسبوع، كان الجواب أن “لا موقف لنا في هذا الشأن”. فيما جاء تعليق واشنطن على انتخاب عون فاترا يشوبه تذكير بالقرارات الدولية التي تعتبر أن لا سلطة في لبنان إلا سلطة الدولة.
بالمقابل فإن مسارعة طهران إلى الجهر بأن انتخاب ميشال عون رئيسا هو انتصار لحزب الله ومحور المقاومة في المنطقة، مما يوحي بأن إيران تلتحق بأمر واقع وتبالغ في تبنيه وإضافته إلى سلسلة انتصاراتها التي لا تنتهي، ناهيك عن غياب أي أعراض يمكنها استدراج حاجة لطهران وواشنطن لشغل قصر بعبدا الشاغر منذ عامين ونصف العام، إضافة إلى تأكيد مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية لي بأن “لا حوار بيننا وبين إيران”.
ربما أن مبادرة سعد الحريري (طالما أنها الوحيدة التي أدخلت ميشال عون إلى القصر الرئاسي) قد تزامنت مع انشغال العالم بأولويات أخرى في المنطقة، بحيث أن العواصم لم تكن معنية في هذا الوقت بنسج قماشة لإنتاج رئيس لبناني. وربما أن الأدهى من ذلك كله أن هذه القوى الإقليمية الدولية غير المهتمة بتسمية رئيس للبنان، غير مهتمة أيضا بأن يتربع على مقعد الرئاسة أي رئيس. ولا بد أن سعد الحريري الذي تقصّد إشاعة الفكرة دون الإقدام عليها، قد أدرك أن العالم يدير ظهره للبنان، بما يتيح له اللعب خلسة أو بغضّ طرف إقليمي دولي، ربما مقصود.
المعادلة الإقليمية الدولية بسيطة أما وأن القوى المقررة في المنطقة غير مستعدة أو قادرة على الاتفاق على ملف واحد – بما يواكب ذلك من مد وجزر وإقدام وتنازل – فحريّ بالمعنيين المحليـين إنتـاج تلـك التسوية التي لا تحـرج الكبار ولا تدخل في رصيد أحد على طاولة البزار الإقليمي الكبير.
المعادلة اللبنانية المحلية بسيطة أيضا: كل الفرقاء يسعون إلى فرض مرشّحهم في بعبدا مهما طال زمن الفراغ الرئاسي بمن فيهم حزب الله وتيار المستقبل.
الفرق أن السيّد حسن نصرالله غير مكترث لإنهاء ذلك الفراغ الذي لا يعطّل خطط حزب الله في سوريا، فيما أن سعد الحريري، لأسباب تتعلق بـ“مصلحة لبنان” وربما لأسباب تتعلق بمستقبله السياسي، قبل بلع علقم ميشال عون رئيسا.
نضجت الطبخة، تنازل سعد الحريري، ولا حنكة من إدعاء العكس، وبدا أن أسبابه، ولا سيما الشخصية منها، طوّعت الرجل للقبول بخصمه ميشال عون رئيسا للبلاد. وحين صعدت روائح الوجبة في مطابخها أرسلت الرياض موفدها (الوزير ثامر السبهان المعادي لإيران) لرعاية الأمر قبل وقوعه، وصعدت من مطابخ طهران صيحات النصر المبين بعد وقوعه.
من حقّ الرئيس بري ألا يفهم الأمر إلا بصفته صفقة خارجية. هذه القاعدة هي التي رافقت انتخاب كل رؤساء الجمهورية في لبنان تاريخيا، وهذا منطقها حاليا داخل إقليم يشهد جراحات كبرى لا يمكن وفقها السماح بتمرد على القاعدة في هذا الظرف التاريخي الدقيق.
لكن الأمر، وحتى ظهور معطيات أخرى، محليّ جدا خاصة وقد جرى إبلاغ العواصم به إلى درجة أحرجت حزب الله الذي لم يعد يجد ذريعة لتعطيل انتخاب رئيس، طالما أن الصفقة تأتي بمرشح الحزب “الوحيد” رئيسا للجمهورية. فإذا ما تردد أن إيران لم تكن تودّ أن تفرج عن “بعبدا” إلا لكي تربح في مكان ما وفي ملف ما، فإن انتخاب الحليف، بهذه الطريقة، بدا أنه إفراج إجباري لا ثمن له.
لكن العهد الجديد يبدأ منذ اللحظات الأولى مفخخا، ذلك أنه يسير على خطّين متناقضين. الأول يمثّله الحريري ذو المزاج السيادي المعادي للنظام السوري المتحالف مع الرياض، والثاني يمثّله عون المتحالف مع حزب الله وإيران ودمشق والذي لم يوفّر هجماته في السابق ضد السعودية وتيار المستقبل “الداعشي” في لبنان.
سيكون عسيرا على ميشال عون رئيسا أن يتخلّص من “جميل” حزب الله في إيصاله إلى مبتغاه في بعبدا، وبالتالي سيكون صعبا على الرئيس اتخاذ مواقف تتّسق مع خطاب القسم الذي ألقاه بعد انتخابه للنأي بالبلد عن البركان السوري على نحو معاكس لواقع قتال الحزب إلى جانب النظام في هذا البلد.
سيكون عسيرا على عون الرئيس تفكيك “دولة حزب الله” لصالح الدولة التي يترأسها، كما سيكون عسيرا أن يلتفت إلى تقوية الجيش اللبناني كقوة دفاع وحيدة في لبنان، بما يصطدم مع واقع سلاح حزب الله وفائض القوة الذي يمتلكه في البلد. فإذا ما تم الحديث عن صفقة عون -الحريري، فإن لا أحد تحدث عن صفقة عون – نصرالله المعمول بها منذ “ورقة التفاهم” والتي لا شك في أنه تمّ تحديثها وتحصينها خلال الاجتماع الذي جمعهما عشية إعلان زعيم حزب الله عن أنه سيرسل نوابه إلى البرلمان لانتخاب عون رئيسا.
لا يخفى ذلك الأمر على سعد الحريري العائد إلى السراي. في قناعة الرجل أنه عائد لتولي رئاسة الحكومة في “دولة حزب الله”. وأن تسمية الكتل النيابية له ليست مهمّة إذا لم يوافق الحزب على تقديم هذه “التضحية” (بحسب نصرالله) والقبول بالحريري لشغل هذا المنصب.
يتقدم الحريري هذه المرة مثقلا بخبرة المنفى، ومتحصّنا بواقعية مفرطة تبعده عن المستحيل وتقربه من الممكن. لن يقارب الرجل مشكلة “سلاح المقاومة”، فمعالجة الأمر لم تعد، ولا يجب أن تكون، شأنا لبنانيا، بل هي في المحصّلة شأن إقليمي دولي تتولاه التسويات الكبرى. ولن يقارب الرجل الشأن السوري، إلا من بوابة أن بيروت ستتعامل مع نظام دمشق الذي “سيقرره السوريون” يوما ما، مع تأكيده على القطيعة الشخصية مع “مجرم الحرب” بشار الأسد، بحسب تصريحاته.
سيسعى حزب الله، بعد أن فرض مرشحه في بعبدا و“سمح” بعبور الحريري إلى السراي، إلى أن يقطف من العهد الجديد الشرعية الضرورية الكاملة داخل المشهد العربي والدولي.
سيعمل حزب الله على الحصول داخل البيان الوزاري على ما يحمي سلاحه في لبنان، ويغض الطرف عن أدائه في سوريا. وسيشارك الحـزب داخل حكومة سعد الحريـري لكي تقيـه مظلـة الحكـومة اللبنـانية شرور الضغوط الخارجية التي تصنّفه إرهابيا وتفرض عليه عقوبات مالية قاسية.
لكن الحزب، وبغضّ النظر عن مدى إمساكه بخيوط اللعبة الداخلية، سيعيد التعايش مع منطق الدولة بعد انتخاب الرئيس بما قد يسبب احتكاكا مع منطق اللادولة في سلوكه وأدائه.
صحيح أن ميشال عون حليف وفيّ لم يخلف وعدا مع حزب الله، لكن “النيران الصديقة” واردة بين ثقافة الرابية وثقافة الضاحية.