ترامب وجاستا.. وجهان لعملة واحدة/محمد قواص

اعترف زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الأميركي ميتش ماكنويل بأن أحدا لم يركز على الجانب السلبي المحتمل لخطوة مصادقة الكونغرس على قانون جاستا وتأثيره على العلاقات الدولية الأميركية، مضيفا أن إبطال فيتو أوباما كان مجرد غلطة من جانب المجلس ومن يتحمل المسؤولية في ذلك هو الرئيس أوباما لأنه فشل في الإخبار عن العواقب المحتملة لمشروع القرار، لكن المتابعين يرون أن تصريحات ماكنويل، تندرج، مثلما هو الحال مع قانون جاستا، ضمن سياق اللعبة الانتخابية، وأن صحوة الكونغرس لم تأت من قلق بشأن ما سببه القانون من توتر بين واشنطن والرياض، بل من أضرار ارتداداته على الولايات المتحدة نفسها.

3009

واشنطن – تبدو مؤسسة التشريع في الولايات المتحدة مربكة مما يثيره قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب”، المعروف بقانون جاستا، من لغط سياسي وقانوني بالنسبة إلى الداخل الأميركي قبل تناول تداعياته خارج الحدود.

ويكتشف عدد كبير من شيوخ الكونغرس الذين صوتوا لصالح القانون أن في الأمر خطأ يجب إصلاحه، حتى أن واحدا من الباحثين الأميركيين في شؤون الكونغرس يقول لي “إذا كانوا يعتبرونه خطأً فلماذا جيشوا (بقيادة الجمهوري جون كورنين من تكساس والديمقراطي تشوك شومر من نيويورك) الأصوات له على مدى 10 أعوام، وبأي فذلكة قانونية سيعدّلون من أخطاره؟”.

لا يصحو الكونغرس على “خطيئته” من بوابة ما سببه القانون من توتر بين واشنطن والرياض، بل من أضرار المسّ بمبدأ الحصانة السيادية في العالم، لا سيما في ارتدادات الأمر على الولايات المتحدة نفسها. فالقانون سابقة أميركية بحيث يسمح للمحاكم الأميركية المحلية بأن تحكم في قضايا دولية ضد أي دولة في العالم يرى مواطن أميركي أنها سببت له ضررا.

فإذا ما أصبح القانون بصيغته الحالية نافذا، فإن من حق محاكم العالم أن تقاضي الولايات المتحدة على ما ارتكبته بحق شعوب العالم من تجاوزات الطائرات دون طيار هذه الأيام مرورا بخطايا عملياتها العسكرية والمخابراتية في العالم قبل ذلك وصولا إلى إعادة نبش الكوارث التي ارتكبتها في فيتنام ما قبل ذلك.

صدمة 11 سبتمبر

يلاحظ أكاديمي أميركي مراقب لحملة الانتخابات الرئاسية الأميركية الراهنة أن قاسما مشتركا يجمع ما بين قانون جاستا وصعود ظاهرة دونالد ترامب.

ملفات التطبيع بين واشنطن وطهران مازالت شائكة، لكن الأمر الواقع داخل أروقة القرار الأميركي هو أن ذلك التطبيع قادم في الوقت المناسب

يرى الرجل أن الولايات المتحدة لم تستطع حتى الآن تجاوز صدمة 11 سبتمبر، وأن المجتمع الجواني الأميركي لم يغفر تلك الواقعة، وأنه يحتاج إلى استعادة الثقة الكاملة بالنفس. وحين أستغربُ هذا التحليل وأسأله كيف لم تعوّض الحروب الأميركية التي أسقطت نظامي كابول وبغداد ما سببته الهجمات الإرهابية في ذلك اليوم، يجيبني بأن الأزمة الاقتصادية التي ألمّت بالبلاد بعد ذلك فاقمت من مشاعر الوهن والتراجع، وهو ما قادهم إلى انتخاب أول رئيس أسود في الولايات المتحدة لعل مقاربته تعيد لهم مناعة باتت مفقودة.

يقول الأكاديمي الأميركي إنه في موسم حصد الأصوات الجاري حاليا فإن “محرميْن لا يجوز المسّ بهما: معاداة السامية وضحايا 11 سبتمبر 2001”. لا ينتخب الأميركيون في 8 نوفمبر رئيسهم فقط، بل أعضاء مجلس النواب لعامين وثلث أعضاء مجلس الشيوخ لست سنوات، بمعنى آخر فإن قانون جاستا الذي حظي بتضافر أصوات الديمقراطيين والجمهوريين كان ضرورة انتخابية لحملات الشيوخ المرشحين، وأن بعد مرور هذه الانتخابات حديث آخر يمكنه معالجة الخلل في متن ذلك القانون.

يوفّر قانون جاستا أدوات محاسبة لملاحقة من وقف وراء اعتداءات 11 سبتمبر. في ذلك ما يدغدغ مشاعر القوة لدى “أميركا البيضاء”، وذلك تماما ما يفعله دونالد ترامب منذ إطلالاته الأولى مرشحا للرئاسة. يكاد جاستا وترامب يتصادفان في لحظة تاريخية معينة لاستدعاء الحساسيات التي تحصد الأصوات لصالح الخيارات اليمينية الشوفينية، ناهيك عن أن روح الظاهرتين تلقى ترحيبا لدى الرأي العام الأميركي.

يضر القانون الشهير بسمعة المملكة العربية السعودية ويلوّح ضمنا إلى تحميلها مسؤولية جريمة 11 سبتمبر، فكيف للولايات المتحدة أن تطعن علاقات تاريخية عتيقة جمعت واشنطن بالرياض؟ يقول لي أحد الباحثين الأميركيين المتابعين لهذا الملف إن جاستا يعبر عن أجواء سياسية عدائية داخل الصف السياسي الأميركي ضد السعودية، وأنه إذا ما كانت “المؤسسات الأميركية تعرف ما تفعله السعودية لمكافحة الإرهاب، فإن أغلبية الأميركيين لا يعرفون عن السعودية إلا واقعة أن 15 إرهابيا من أصل الـ19 الذين ارتكبوا اعتداءات 11 سبتمبر هم سعوديون”.

توتر أميركي خليجي

تعتبر أوساط صديقة للرياض داخل الكونغرس أن “صورة السعودية مشوّهة وعلى السعوديين إصلاح تلك الصورة”. وينفي مسؤول كبير داخل وزارة الخارجية الأميركية أن تكون الإدارة الأميركية وراء هذا القانون. يقول لي “القانون يعبّر عن رأي شعبي عام لاحظناه بقوة في تتبع للسياق الذي قاد إلى تشريع القانون”. ويضيف أن الكونغرس يعترف اليوم بأخطاء ارتكبت في صياغة القانون، رغم أننا “حذرناهم من تلك الأخطاء، وطلبنا من الكونغرس أن يرفض المصادقة على القانون”.

يعترف المسؤول الأميركي أن “قانون جاستا يربك العلاقات السعودية الأميركية، لكنه لن يعطلها”.

وحول ما إذا كان القانون يمثّل كرة ثلج أميركية ضد السعودية أو يعبّر عن مآخذ أميركية معينة على الرياض، يكشف المسؤول الأميركي “أننا نناقش معهم (السعوديون) مسائل متعلقة بحقوق الإنسان وأننا نتعاون معهم في مسائل الأمن والعدالة، وهذا التعاون ينسحب على كافة دول مجلس التعاون الخليجي”.

لكن هذا الرد الدبلوماسي لا يجيب عن حقيقة التوتر بين واشنطن ودول الخليج، وهو أمر بدا ظاهرا في القمم التي جمعت الرئيس الأميركي باراك أوباما بالزعماء الخليجيين، كما من خلال تصريحات أوباما، لا سيما تلك التي نشرتها صحيفة “الأطلنتيك” الأميركية، التي وجه من خلالها انتقادات واضحة لدول الخليج.

قانون جاستا الذي حظي بتضافر أصوات الديمقراطيين والجمهوريين كان ضرورة انتخابية لحملات الشيوخ المرشحين، وبعد مرور هذه الانتخابات حديث آخر يمكنه معالجة الخلل في متن ذلك القانون

يقول مصدر وزارة الخارجية “شراكتنا بدأت مع السعودية منذ عام 1945، وهذه الشراكة باقية ولا خوف عليها”، مضيفا أنه يتفهم القلق الخليجي (خصوصا بعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران)، لكننا “لسنا بصدد التخلي عن شركائنا”، بيد أن الرجل يذهب بعيدا في مرافعته، ويقول “أعتقد أن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة إلى نفط الخليج، وهذا يعطي انطباعا للخليجيين أن واشنطن تبتعد عنهم، لكننا لا نملك ترف التخلي عن الخليج لما لهذه المنطقة من أهمية لاقتصادنا واقتصاد العالم”.

ثم يقول أكثر من ذلك “برزت أهمية المنطقة أكثر منذ المقاطعة النفطية التي مورست ضدنا عام 1973. أمر تلك المقاطعة لم يعد ممكنا اليوم، وربما أن الولايات المتحدة لم تعد تحتاج للنفط الخليجي، لكن المنطقة مهمة للاقتصاد العالمي، ناهيك عن أن السعودية والخليج شركاء لنا في ملفات عديدة في المنطقة تتم بالتنسيق معنا”.

لكن، وبغضّ النظر عن التصريحات الصادرة عن الإدارة الأميركية والتي تحاول تدوير الزوايا في شأن العلاقات الأميركية السعودية، فإن أمر تلك العلاقة لم يعد كما كان في السابق ولا يبدو أن بالإمكان ترميمه.

العلاقة مع إيران

تلاحظ أوساط مراقبة للسياسات الأميركية في الشرق الأوسط أن التيارات الضاغطة المعادية لإيران داخل المؤسسات الأميركية قد اختفت ويكاد صوتها لا يسمع منذ التوقيع على الاتفاق النووي.

وتدعو هذه الأوساط إلى ملاحظة أن الحملة الانتخابية للمرشحيْن للرئاسة الأميركية لم تشن حملات ضد إيران، على الأقل ليس بالنسب المرتفعة قبل ذلك، بما يعكس تحوّلا معينا في الرأي العام للنخب السياسية في البلاد.

يستنتج البعض من ذلك أن الولايات المتحدة تسعى لجني استثمارها السياسي في إيران وهي التي رعت الاتفاق النووي، خصوصا بعد غضب أسواقها الاقتصادية من لجوء طهران مؤخرا إلى شراء 114 طائرة من طراز “إير باص” الأوروبية بدل “البوينغ” الأميركية. صحيح أن ملفات التطبيع بين واشنطن وطهران مازالت شائكة، لكن الأمر الواقع داخل أروقة القرار الأميركي هو أن ذلك التطبيع قادم في الوقت المناسب. وترى هذه الأوساط أن استخدام الرئيس أوباما لتعبير “السلام البارد” في معرض دعوته الخليجيين إلى إدارة علاقتهم مع إيران، بمعنى إرساء قواعد عمل تجمع الرياض وطهران رغم خلافاتهما، ينطبق أيضا عما تريد الولايات المتحدة إرساءه، هي نفسها مع إيران.

ويخبرني أحد الباحثين الأميركيين في شؤون الشرق الأوسط أنه لا قرار حاسما حتى اليوم في شأن العلاقة مع إيران، فذلك ستحدده الإدارة المقبلة، إلا أن الفلسفة الجديدة لا تريد لتلك العلاقات العتيدة أن تكون على حساب علاقات واشنطن مع دول الخليج وليس استبدالا لها، بل إن واشنطن ستذهب إلى علاقة متوازنة، وربما قد تستخدمها للابتزاز السياسي لكلا الطرفين في الأجلين المتوسط والطويل.

ومع ذلك فإن التحوّلات الكبرى في المنطقة، لا سيما تلك الجارية في العراق وسوريا وتلك الخاصة بتطور العلاقات الروسية التركية ومناورات إيران داخلها، ستعيد تحديث الرؤى الأميركية وإستراتيجيتها في كل المنطقة.

بالمحصلة فإن الجاستا، حتى في تعديلاته المحتملة، يمثّل سياقا يعكس تغيّرا جذريا داخل الانتلجنسيا الحاكمة في الولايات يجدر تأمله بعناية ودقة.