ما الذي يدفع العقلية الاستراتيجية في الأروقة الأميركية أن ترى في ‘داعش’ العراق خطراً لا تراه عاجلاً في ‘داعش’ سوريا؟
يعتبر جو بايدن، نائب الرئيس الأميركي، أن سوريا دولة ليست مهمة للولايات المتحدة. نستنتج من هذا التوصيف أن مصالح واشنطن لا تستدعي انخراطاً عسكرياً على منوال ذلك الذي جرى في يوغسلافيا السابقة أو الكويت أو العراق أو أفغانستان. وربما لذلك تمّ “ايكال” الأمر إلى روسيا، وسيستمر ذلك طالما كان مستطاعا وناجعا.
ويعتبر الرئيس الأميركي باراك أوباما أن لا أخطار مباشرة على الولايات المتحدة جراء تفجّر البركان السوري واحتمال استمرار القذف بحممه. وعليه فإن ما يهمّ الأدارة الأميركية في إطلالتها على حرائق المدن في سوريا، هو، وبشكل حصريّ، “أمن إسرائيل”. وطالما أن تل أبيب لا تقلق من الكوارث في حلب وحمص وحماة وأرياف دمشق.. إلخ، فإنه لا عجالة في واشنطن تستدعي تحرّكاً استثنائيا.
حين استُخدم السلاح الكيماوي في هجوم على غوطة دمشق عام 2013، اعتبرت واشنطن أن النظام اخترق خطوطاً حمراء. والغضب من اختراق الخطوط ليس بالضرورة في الكارثة التي حلّت بأهل الغوطة، فهذا تفصيل، بل في التهديد الذي تمثّله هذه الأسلحة على أمن إسرائيل. حينها، وحينها فقط، تحرّكت القطع البحرية الأميركية، وخرج الرئيس أوباما متوعداً، ما قاد إلى إشراف موسكو ووزير خارجيتها سيرغي لافروف إلى توضيب صفقة، قام وفقها نظام دمشق، طائعاً، بتسليم ترسانته الكيماوية وإخراجها من البلد.
وإذا كان من حقّ واشنطن والعواصم الأوروبية أن لا ترى في الوباء السوري خطراً على الأمن الاستراتيجي للمنظومة الغربية، فمن حقّ أي مراقب أن يسأل عما تحمّله مدينة الموصل في العراق من أخطار مباشرة عاجلة داهمة تستدعي استنفاراً أميركياً أطلسيا وجهداً دوليا إقليميا دبلوماسياً للإعداد لتحرير المدينة من تنظيم داعش. فإذا كان من معاناة يسببُها بطش التنظيم الارهابي، فهي تلك التي يعيشها السكان تحت سطوة التنظيم، ومن الصعب الاقتناع بأن وراء الحميّة الأميركية توق لانقاذ مدنيي العراق من إرهابيي البغدادي.
بكلمة أخرى، ما الذي يدفع العقلية الاستراتيجية في الأروقة الأميركية أن ترى في “داعش” العراق خطراً لا تراه عاجلاً في “داعش” سوريا؟ ثم ما الذي جعل العقيدة العسكرية الأميركية تجيد فجأة التخلص من أي ارتباك عضويّ سببته “عقيدة” الرئيس أوباما، والمتأسسة، عملياً، على ثابتة سحب بلاده من أي انخراط عسكري مباشر؟
ليس في الأسئلة خبثٌ مشكّكٌ أو انزلاق في الاستسلام لنظرية المؤامرة. وحين حملتُ تلك الأسئلة إلى جهات أميركية وأوروبية تعمل داخل المؤسسات الرسمية الأميركية والأوروبية، جاءت الأجوبة مسطّحة تبسيطية تتحدث عن “الواجب” و”الأخلاق” في محاربة الإرهاب وتقديم العون لتخليص الشعب العراقي من هول التنظيم الإرهابي. وأعترفُ أني لم أحظٓ بجواب يندرجُ ضمن فهمٍ لخلفيات الخرائط وتقاطع المصالح واستشرافٍ لما وراء المعركة العتيدة.
تتعامل واشنطن مع ملف “داعش” في العراق بصفته حالة منفصلة عن تلك في سوريا. وهي وإن تعِدُ العدّة في جوار الرقّة السورية بالتحالف مع الأكراد تارة وبعض العشائر العربية تارة ثانية وربما التسليم بدور لتركيا تارة ثالثة، إلا أن الأمر ممكن أن يتعايش مع ورشة روسية دمشقية إيرانية تعمل دون كلل على تدمير المدن وارتكاب ما وصفته لندن بـ “جرائم حرب” وما وصفته برلين بالـ “وحشية”. ولكن، وبغضّ النظر عن تقنيات المعركة ومسرحها ولاعبيها، فإن العقل الأميركي يتعامل مع تنظيم البغدادي بصفته عصابة لا سياق سياسيا اجتماعيا لتشكّلها، معتبرة أن إزالة الورم الظاهر يجتث المرض الخبيث الكامن.
تقرع طبول الحرب في بغداد ايذاناً بالنصر القريب ضد الإرهابيين، وعليه يجري جدل صاخب حول هوية من سيحقق هذا “النصر” ومصير الموصل بعد “التحرير”. وفيما تحشد الولايات المتحدة “مستشاريها” بالآلاف لرفد الأخيار لطرد الأشرار، تعلو أصوات كردية، سنّية، شيعية، تركمانية، عربية.. إلخ، تحذّر وترفض وتهدد، على ما ينذرُ أن لمعركة الموصل أغراضاً تتجاوز تفصيل طرد المحتلين وتطهير العراق من رجسهم.
لا يريد السنّة مشاركة ميليشيات الحشد الشعبي في المعركة. يرون في ذلك استفزازاً لأهل المدينة السنّة، ولسنّة العراق الذين أغضبتهم انتهاكات “الحشد” وممارساته (وفق تصريحات، منها عن وزراء في حكومة العبادي)، على ما يُعدّ العدّة لخروج “داعش” جديد آخر يرث “داعش” المُراد اقتلاعه.
للمنطقة موقف في هذا الشأن. ضبابية المصير الذي يحيط بالموصل بعد تحريرها، يدفع بتركيا للاطلالة مباشرة، وبقوة، على ميدان المعركة، بحيث تجعّل من “حصان طروادة” التركي في بعشيقة ركناً أساسيا لما تخطط له إدارة أردوغان للصراع وللمدينة.
والضبابية تلك، تدفع دول مجلس التعاون الخليجي لرفد الموقف التركي، من خلال موقفها السابق على ذلك الذي تنبهت له أنقرة حديثا. يرفض المجلس مشاركة ميليشيات الحشد الشعبي، ذلك أنه “عندما دخلت هذه الميليشيات الفلوجة، ارتكبت جرائم هائلة”، وفق تصريحات وزير الخارجية السعودي عادل الجبير (في المؤتمر الصحافي الذي جمعه بنظيره التركي مولود جاويش أوغلو في الرياض بُعيد الاجتماع الوزاري التركي الخليجي الخميس الماضي).
حول “طاولة” الموصل توزّع اللاعبون المحليون والإقليميون والدوليون. رموا أوراقهم، وأضحت المواقف جلية في تناقضها، على ما يحيل أمر تحرير المدينة تمرينا معقّداً قد يبدو عصيّا مستحيلا.
في كواليس الاعداد لمعركة الموصل أعراض لانطلاق صراعات تفتيتية عراقية-عراقية واقليمية-اقليمية. فوق خارطة العمليات سجال بين بغداد وأربيل حول خطوط الجبهات وسير القوات. يفصح عن ذلك ما نقلته وكالات الأنباء عن قائد عسكري في قوات البيشمركة من أن التفاهمات مع بغداد “تمنع اقتراب أي مقاتل شيعي” (هكذا قال بالحرف)، سواء كان من مقاتلي “الحشد” أو حتى من مقاتلي الجيش العراقي، من الاقتراب من “جبهاتنا” على طريق الموصل.
وفي السجال أيضاً ما يأخذ بعداً مذهبياً ترفض من خلاله قوات “الحشد” (العشائري) السنّية اقتراب “الحشد” الشيعي من الموصل. وهليه يروج سجال تركي عراقي حكومي يدور حول الحاجة إلى عدم العبث بالتركيبة الديمغرافية وفق رواية أنقرة، واعتبار حالة معسكر بعشيقة احتلالا اجنبيا، وفق. رواية بغداد.
داخل اختلال موازين القوى العربية التركية الايرانية وتواجهها في ميادين “الربيع العربي” تأتي معركة الموصل، غير المفهومة توقيتا وتكتيكاً ومآلاً، لتحمل ماء إلى طاحونة تعمل لاعادة كتابة صفحات المنطقة وترتيب فصولها.
في تلك الجلبة من يرى أن في الأمر إطلاق لخرائط ما “باتت ضرورية” في العراق. على أن هذه الضرورة تنهل عبقها من حاجات كبرى تفسّر حماسة واشنطن (بتصفيق شديد من موسكو) للقيام بجراحة قد تزيل ورماً وتقتل المريض.
وفي تلك الجلبة من يتأمل إشراف الولايات المتحدة على تحييد نفسها عن جدل أطراف الداخل كما عواصم الخارج. وفي الأسئلة حول موقف واشنطن استنتاج يرى في أن الإدارة الأميركية ستقدم نفسها، وهي المتحالفة مع جميع المساجلين المجادلين، حكماً يوزّع الغنائم ويشرف، لا شك، على رسم خرائط ما بعد “التحرير”.