قمة بلا طعم ولم تعد لها ضرورة / عبداالله المدني

2855
ربما يأتي هذا المقال متأخرًا بعض الشيء، لكن مضمونه يبقى صالحًا لأنه يدور حول مؤتمر لم تعد هناك ضرورة لانعقاده كل أربع سنوات وتكبد المصاريف الباهظة لإتمامه وسفر الوفود من أقاصي الأرض لحضوره. والمقصود هنا هو قمم حركة عدم الانحياز التي عقدت اجتماعها السابع عشر منذ تأسيسها مؤخرًا في جزيرة مرغريتا الفنزويلية وليس في عاصمة البلد المضيف كما جرت العادة لأن الأخيرة تعيش في فوضى معيشية ومظاهرات يومية لأسباب كثيرة لا داعي لشرحها من أهمها سياسات حكومتها الحالية الراديكالية التي يتزعمها اليوم «نيكولاس مادورو» الذي ورث السلطة من رفيقه الراحل اليساري المتطرف «هوغو تشافيز».
والقول إن القمة المذكورة لم تعد لها ضرورة ليس قولاً اعتباطيًا أو من وحي موقف سياسي ما، وإنما تدعمه معطيات كثيرة. فحركة عدم الانحياز، التي ولدت فكرتها ابتداءً في قمة باندونغ للدول الأفروآسيوية سنة 1955 قبل أن يفعلها الثلاثي «نهرو تيتو عبدالناصر» عن طريق مأسستها والدعوة إلى انعقاد القمة الأولى في عام 1961 بمدينة بلغراد عاصمة ما كان يعرف بيوغسلافيا، صارت جثة هامدة منذ انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، لكن بعض الدول المستفيدة منها لا تريد استصدار شهادة بوفاتها أو انتفاء أسباب بقائها. ثم أن جل الدول المتحمسة لبقائها والناشطة في إطارها لم تعد لها مصداقية بسبب خرقها المتكرر لمبادئ الحركة، ناهيك عن عدم قدرة الأعضاء على التأثير في الأوضاع والأزمات الدولية ككتلة واحدة. ولكي نوضح الفكرة بصورة أدق، دعونا نقارن بين القمة الأولى والقمة الأخيرة.
وقت انعقاد القمة الأولى كان حجم المشاركة ضخمًا، وكانت كل الدول الأعضاء حاضرة وممثلة بقادتها الكبار من زعماء العالم الثالث، وكانت الصحف والمجلات تخصص ملاحق مصورة لتسليط الضوء على مجريات القمة وقراراتها، كما كان الكبار في موسكو وواشنطون يراقبون جلساتها ويتحسبون لما سيصدر عنها. وحينما قررت القمة إرسال وفدين أحدهما إلى موسكو بقيادة الزعيم الهندي نهرو، والآخر إلى واشنطون بقيادة الرئيس الاندونيسي سوكارنو لمقابلة الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف ونظيره الأمريكي جون كينيدي ووضعهما في صورة ما اتخذ من قرارات، تم استقبالهما هناك على أعلى المستويات في حدث جندت وسائل الإعلام العالمية كل طاقاتها لتغطيته.
أما القمة الأخيرة فقد مرت مرور الكرام دون أن يشعر بها أحد، بل لم يحضرها من القادة سوى زعماء عشر دول من أصل 120 دولة عضو في الحركة، كان جلهم من أصحاب الخطابات الثورية التي أكل عليها الدهر وشرب من أمثال زعيم الدولة المضيفة وأشباهه اليساريين في أمريكا الجنوبية، إضافة إلى حليفه الإيراني حسن روحاني.
ثم قارن عزيزي القارئ بين المبادئ التي قامت عليها الحركة مثل الالتزام بالنواميس والأعراف الدولية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء والعمل على تعزيز الأمن والسلم الدوليين واحترام سيادة الدول وسلامة أراضيها وحقها في الدفاع عن نفسها وعدم استخدام الأحلاف الدفاعية الجماعية لتحقيق مصالح خاصة لأي من القوى العظمى وبين السياسات التي تنتهجها بعض الدول الناشطة حاليًا في الحركة من تلك التي شارك قادتها في قمة مرغريتا الأخيرة. وهنا تبرز إيران كمثال صارخ لعضو الحركة الذي خرق ويخرق بشكل متكرر وعلى رؤوس الأشهاد مبادئ الحركة التي أتينا على ذكرها، وعلى رأسها التدخل في شؤون جيرانه الداخلية والتشجيع على الأعمال الإرهابية وإثارة القلاقل والفتن، على نحو ما يفعله نظام الملالي بحق دول مؤسسة للحركة مثل السعودية والعراق ولبنان وسوريا واليمن. هذا علمًا بأن إيران لم تنضم إلى الحركة إلا بعد مرور 18 سنة على تأسيسها، أي بعد سقوط نظام الشاه الذي كان حكام إيران الحاليين يأخذون عليه تحالفه مع الإمبريالية الغربية وخرقه لمبادئ العدالة والسلام العالمي وحقوق الإنسان فيما هم يكررون اليوم ما زعموه دون حياء بدليل سياساتهم الخارجية المريبة وممارساتهم القمعية الداخلية.
لقد جرت مياه كثيرة منذ قمة الحركة الأولى قبل أكثر من نصف قرن، وانقرضت دول، وتفتت كيانات، وظهرت كيانات جديدة، ورحل الآباء الموسسون حسرة أو موتًا أو اغتيالاً أو خروجًا من السلطة تحت أعقاب بنادق ورشاشات العسكر وحل مكانهم زعماء تنقصهم الشرعية التاريخية أو قادة مهووسون بالظلم وإشعال الحرائق والفتن وخرق الأعراف والقوانين الدولية.
لذا كان أمرًا لافتًا للنظر غياب زعيم الديمقراطية الوحيدة التي ساهمت في تأسيس الحركة وهي الهند عن قمة مارغريتا، مكررة ما فعلته في القمة السابقة التي انعقدت للأسف في طهران في أغسطس 2012، فكان انعقادها هناك بمثابة مكافأة غير مستحقة وغير مبررة للنظام الإيراني الأرعن لتلميع صورته بين الأمم كنظام سوي.
فحسنًا فعلت نيودلهي التي اختارت «تعدد الانحياز» بدلاً من «عدم الانحياز» بحسب تعبير مراسلة صحيفة اللوموند الفرنسية «جوليان بويسو»، وحسنًا فعلت بعض الدول العربية حينما تمثلت في القمة الأخيرة بوفود على أدنى المستويات