أمضى رياض الصلح الزعيم التاريخي للسنة اللبنانية أربعينات القرن العشرين، وهو يشكل الحكومات. ثم يستقيل منها، لإسناد رئاستها إلى زعماء سنة آخرين يمارسون الثرثرة ضده، بانتظار دورهم لمشاركته في كعكة الحكم.
السياسة في لبنان ثرثرة فضائية تمارسها الطبقة السياسية. هذه الثرثرة تحول دون تشكيل مشروع سياسي. أو اقتصادي جاد ومتكامل. وهي تنتقل إلى المجتمع الطائفي بردًا وسلامًا حينًا. وحينًا آخر تصل إعصارًا تحريضيًا كافيًا لإشعال حرب أهلية.
في الثمانينات اللبنانية، استطاع مقاول كبير أن يعيد الحياة إلى مدينة بيروت التي أنهكتها الحرب الأهلية. ويشد من معنويات طائفته السنية. وفي تحوله السريع من مقاول كفء إلى سياسي واقعي، استطاع رفيق الحريري أن يقنع معظم ساسة الطوائف بالذهاب إلى مؤتمر الطائف في السعودية (1989).
كان ميثاق الطائف بمثابة إعادة توزيع عادل للسلطات والمسؤوليات، بين الطوائف الأساسية الثلاث: الموارنة. السنة. الشيعة. وتم فيه الاتفاق على إنهاء الحرب. وإلغاء الطائفية السياسية. وإعادة إعمار لبنان. وإعطاء مجلس الوزراء ورئيسه السني دورًا تنفيذيًا أكبر، فيما يبقى رئيس الجمهورية الماروني وسيطًا. ومنسقًا بين ساسة الطوائف. وملزمًا باستشارة النواب في اختيار وتكليف رئيس الحكومة.
غير أن النظام الطائفي السوري المهيمن على لبنان عسكريًا وسياسيًا، سعى جهده لتعطيل تنفيذ ميثاق الطائف، بانحيازه إلى الطائفة الشيعية وحزبها الديني «حزب الله». لكن في مقابل إنهائه حروب المخابرات الإيرانية / الغربية. وإقناعه إيران بالإفراج عن الرهائن الغربيين المخطوفين، فقد اعتمدت أميركا بوش وكلينتون النظام السوري «شرطي لبنان» الأوحد.
مع استدارة الثمانينات للوصل مع التسعينات، شهدت الساحة الإسلامية استقرارًا نسبيًا، فيما انفجرت الساحة المسيحية، بصعود دور العماد ميشال عون قائد ما تبقَّى من الجيش اللبناني. وإجباره الرئيس أمين الجميل بالعهدة إليه، بمنصب رئيس الحكومة.
الزعامات السياسية اللبنانية لا تجيد، عادةً، تحليل الواقع السياسي والميداني في المنطقة العربية. كان رهان الزعماء الموارنة على التدخل السوري ثم الإسرائيلي خطأ كارثيًا. ثم راح عون الذي طرح نفسه «محررًا» للبنان يهدد بقصف دمشق بصواريخ «حليفه» صدام. ثم ما لبث أن اشتبك جيشه مع ميليشيا «القوات اللبنانية»!
انتهت الحرب المسيحية بمقتل وجرح 7500 مسيحي. وخسارة المسيحيين الحرب الأهلية. ونفي عون إلى فرنسا. وإنهاء الازدواج الحكومي. وتشكيل رفيق الحريري الحكومة اللبنانية العتيدة.
في التحليل، نسي الحريري دبلوماسية الراحل رياض الصلح. فظن أنه يستطيع الانفراد برئاسة الحكومة مدة طويلة، لخدمة مشروعه الاقتصادي والعمراني. فراح الزعماء السنة المتلهفون للحكم يشاغبون عليه، فيما نفذ «حزب الله» تعليمات إيران، بمنع الحريري من المساهمة في تنمية المناطق الشيعية وإعمارها.
بعد تشكيل حكومته الأولى في التسعينات، ساير رفيق الحريري نظام الأسد. واستغل مكانته الدولية في الدفاع عنه، في عواصم الغرب. وأزيح الستار هنا عن إقناع الحريري باريس، بالسماح لعون بالعودة إلى لبنان ومصالحة النظام السوري.
ثم ما لبث الحريري أن اشتبك مع الرئيس إميل لحود المنحاز إلى السورية. وانتهى الاشتباك في عصر بشار الأكثر شراسة من أبيه، باغتيال الحريري (2005). وتوجيه الاتهام في المحكمة الدولية إلى أعضاء حزب الشيعة بارتكاب الجريمة، بالتنسيق مع أجهزة أمنية سورية. لكن دم الحريري لم يذهب هباء. فقد حرر لبنان من الاحتلال العسكري السوري.
أما عون فقد عاد إلى لبنان منقلبًا على ماضيه: تحالف مع «حزب الله» وإيران. صالح نظام بشار. فاستقبله في سوريا كملك ماروني زائر لمسقط رأس «القديس» شربل شفيع السريان الذين ينحدر منهم الموارنة المهاجرون تاريخيًا من سوريا إلى جبال لبنان.
هل يعيد التاريخ نفسه؟ ها هو حريري آخر يمد يده إلى ميشال عون، مبايعًا له كمرشح للرئاسة. أقول إن الحريري الابن يقدم على مغامرة قد تنتهي إما بإيصاله إلى رئاسة الحكومة، مرسيًا حلفًا مارونيًا / سنيًا جديدًا، شبيهًا بذاك الذي أقامه الراحل رياض الصلح في الأربعينات. أو تنتهي بإحباط حياته السياسية.
لكنْ دون ذلك أهوال وأهوال. عرّض سعد الحريري تياره (المستقبل) للانقسام. فقد رفض عشرة نواب من أصل ثلاثين التصويت لعون رئيسًا. ويقف النائب فؤاد السنيورة على رأس هذه المجموعة التي لا تثق بعون «الطائفي. المتقلب. وغير المضمون». كما يعارض نواب وساسة موارنة ومسيحيون في تيار 14 آذار الذي يتزعمه الحريري الابن، التصويت لعون، بما في ذلك نواب حزب الكتائب.
في خطاب التأييد لعون، يشرح الحريري الأسباب بالقول إنه توصل إلى تفاهم مشترك معه، على «تحييد لبنان» في الأزمة السورية. هذا الكلام الخطير يحتاج إلى تأكيد وضمان من عون. و«حزب الله» وكيل إيران في لبنان. عون الذي زار الحريري الابن فور إلقاء خطابه لم يؤكد. إنما اكتفى بالتطييب للحريري، عن ضرورة إنقاذ لبنان دولةً. ونظامًا. واقتصادًا.
الرأي العام العربي يصعب عليه فهم رموز اللغة السياسية اللبنانية. وألغاز الشروط والضمانات المتداولة. تسهيلاً، أقول إن «السلة» أصبحت رمز المساومة والتسوية في اللعبة الراهنة، بحيث بات هناك من يقول إن العماد عون أصبح المرشح و«الرئيس» المسافر في «سلة» الحريري.
لكن نبيه بري الرئيس الشيعي المزمن لمجلس النواب، فقد بات شديد العتب والغضب على ابنه «الروحي» سعد الحريري. لأنه لم يطلعه على «تفاهمه» مع عون.
هنا يقال إن على «حزب الله» ترضية بري ومصالحته مع عون. خبرتي في المساومات اللبنانية تجعلني أعتقد أن بري في رفضه لترئيس عون، يتعمد خدمة إيران و«حزب الله» اللذين يفضلان إبقاء منصب الرئاسة اللبنانية شاغرًا، بانتظار الحسم النهائي في سوريا، على أن يملأه حليف ماروني «مشاغب. ومتقلب. وأيضًا غير مضمون» كالعماد ميشال عون. مع ذلك، ألقى حسن نصر الله خطابًا في «الويك إند» تعهد فيه بالتصويت لترئيس عون في جلسة 31 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي.
ماذا عن الدور السعودي؟ المعروف عن الدبلوماسية السعودية أنها تضيق بالثرثرة السياسية. وقد ضاقت أكثر عندما وجدت أن الجيش اللبناني يحمي الخطوط اللوجيستية لـ«حزب الله» المؤدية إلى الحدود السورية.
هل تضمن «السلة» لسعد الحريري ترشيحه لرئاسة الحكومة؟ أم أن (الرئيس) عون سوف يتلاعب بالاستشارات النيابية، ضد مصلحة الحريري الابن، تمامًا كما تلاعب بها الرئيس لحود، ضد مصلحة الحريري الأب؟!
إذا قبلت إيران بتوزير الحريري (الذي هاجمها بمرارة في «النيويورك تايمز» أخيرًا). فهل تسمح له بالاستمرار في الحكم؟ أم تستخدم «الثلث» الوزاري المعطِّل الذي استخدمته لنسف حكومة السنيورة. ثم حكومة سعد الحريري (2011)؟
يبدو أن الحريري الابن هو أيضًا «مسافر زادُهُ الخيال» في السلة.
نقلا عن العربیه