هل يمكن للبلد الصغير أن يفرض أمرا واقعا على الكبار، أم أن الجراحة الجارية في كل المنطقة قد تحيل التفصيل اللبناني هامشيا لا تلحظه التحولات الكبرى القادمة؟
رغم أني حزمتُ حقيبتي باتجاه واشنطن معززا بتأشيرة دخول ممنوحة من السفارة الأميركية في لندن، إلا أنه، ولسبب ما، كان على موظفي شركة الطيران التواصل مع دائرة الهجرة في الولايات المتحدة للمزيد من التحقيق والتحقق. اعتذرت موظفة الشركة عن ضياع كل هذا الوقت أثناء اتصالها بدائرة الهجرة في واشنطن، وهي تجيب على أسئلة روتينية تتعلق بجواز السفر وتفاصيل “الفيزا”، لكنها حين أجابت محدثها، وبعد سؤالي عن مدينة الولادة، بأنها بيروت، سألها ذلك المحدث: أين تقع بيروت؟
أجبت على السؤال بابتسامة “هي عاصمة لبنان”. لم يكن ذلك كافياً، ذلك أن الشخص الذي سيقرر مروري نحو بلاده من عدمه طلب عبر الهاتف تهجئة حروف كلمة لبنان، واعتقد أنه كان يريد تلقيم الحروف لحاسوبه ليعرف شيئا ما عن هذا البلد.
الأمر مفارقة كبرى، ذلك أن لبنان بلد صغير إذا ما قُورن بدول كبرى تقارب الولايات المتحدة ملفاتها، لكن للبلد في ذاكرة الأميركيين كوابيس سوداء منذ خطف مواطنين أميركيين وتدمير السفارة الأميركية وتفجير ثكنة المارينز هناك، ناهيك عما يبثه البلد من أخبار تتصدر وسائل الإعلام الدولية منذ عقود. لكن ما ليس مفارقة أن البلد، لا سيما في هذه الأيام، هامشي الوزن لدى الأميركيين، وتتعامل الإدارة الأميركية معه في سياق معالجتها للملف السوري. فإذا ما بات لبنان خيمة كبرى لأكثر من مليون ونصف المليون من اللاجئين السوريين، فإن واشنطن تواكب يوميات البلد من هذا المدخل، وليس من أي مداخل أخرى تتعلق بشؤون السياسة الداخلية.
والزائر لواشنطن، ثم لوزارة الخارجية الأميركية، سيستنتج بسهولة أن إدارة الرئيس باراك أوباما، التي تلملم أوراقها قبل الرحيل، مشغولة بملفات كبرى في منطقة الشرق الأوسط، قد تبدو معركة الموصل أحد مظاهرها الكبرى. وإذا كان الجهد الدبلوماسي يدور حول شؤون سوريا وترتيب العلاقة مع الشريك الخليجي أو ذلك التركي، فإن أمر المداولات حول انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان يبدو داخل أروقة إدارة جون كيري جلبة بعيدة ورياحاً لا تربك نسماتها تكتيكات واشنطن في المنطقة.
تساءلتُ في مكتب مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن، عما إذا كان مسموحاً للبنان أن ينتخب رئيساً محليّ الصنع دون أن يمر ذلك، كما هو الحال منذ استقلاله عام 1943، بتسوية وتقاطع إقليمي دولي، أو أن المجتمع الدولي مشغول عنه بما يتيح أمر ذلك. ضحك ذلك المسؤول من فكرة أن البلد الصغير يتدبر أموره مستغلاً انشغال العواصم الكبرى بأمور أخرى. قال “ساءنا الفراغ الرئاسي في لبنان ويهمنا وضع حد لهذا الفراغ”. بدا واضحا من خلال ملامحه أن واشنطن ليست شريكة في ما يتم ترتيبه لانتخاب ميشال عون، وأن الولايات المتحدة، حسب قوله، “ليس لديها موقف معيّن” من هذه الترتيبات الجارية في لبنان.
قد لا يُفهم من هذا الموقف شيئا، وقد يُفهم منه كل شيء. الأمر يتعلق بالكيفية التي يُقرأ بها الموقف الأميركي، صحيح أن تصريحاً أولياً لوزير الخارجية الأميركي فُهم منه استخفاف بالجلبة الرئاسية في لبنان، لكن توضيحاً رسميا أصدرته وزارة الخارجية الأميركية لاحقاً أعاد تصويب الموقف صوب ما اعتبر نأيا بالنفس أو تعبيرا عن لا موقف في هذا الشأن. وفي غياب موقف أميركي-دولي حاسم، يمكن للورشة اللبنانية أن تفهم ذلك ضوءا أخضر للمضي في السّعي الذي بدأه الرئيس سعد الحريري وباركه السيد حسن نصرالله لانتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية اللبنانية.
قبل أشهر فقط توجه وفد نيابي لبناني إلى واشنطن ضمَّ محمد قباني وياسين جابر وروبير فاضل وآلان عون وباسم الشاب، إضافة إلى مستشار الرئيس نبيه بري علي حمدان. تداول الوفد مسألة العقوبات التي قد تطال النظام المصرفي في إطار الموقف من حزب الله. عرّج الوفد على صندوق النقد والبنك الدوليين لبحث مسائل تمويل لبنان. كانت واشنطن تراقب وترعى قلق اللبنانيين في قطاع المال، وكان موقفها نشطا في طمأنة لبنان وبرلمانه، فكيف يعقل أن تهمل موقفاً يتعلق برئيسه العتيد؟
على أن من المتابعين من قرأ اللاموقف الأميركي بصفته نذير شؤم على الاستحقاق الرئاسي اللبناني. منهم من اعتبر أن الإدارة الأميركية قد لا تريد اتخاذ موقف واضح لإدراكها أن تعطيلا ما، محليا أو إقليميا، قد يحول دون الوصول إلى خواتيم تفتح أبواب قصر بعبدا. ومنهم من اعتبر أن ورشا جراحية كبرى تجري في المنطقة من مشرقها إلى مغربها، قد لا تتيح تمرير واقعة لا تعبر بالضرورة عن حقيقة التوازنات الجارية التشكّل في المنطقة والعالم. ومنهم من رأى أن إدارة أوباما العاجزة حاليا عن حسم الملفات وتعمل على ترحيلها إلى الإدارة المقبلة قد تنظر بعين الريبة إلى ملف في لبنان لم تعمل على إنضاجه وإعداده للترحيل.
لكن، وبغض النظر عما يضمره الأميركيون للبنان واللبنانيين، فإن المشهد الذي يقرأه المراقبون من واشنطن يؤكد أن خيارات إيران في المنطقة تتدعم على النحو الذي يمثله تسليم العالم والطبقة السياسية اللبنانية بالقبول بمرشح حزب الله ميشال عون رئيسا للبلد. وفيما يعترف المسؤول الكبير في وزارة الخارجية بأن الحوار مقطوع بين واشنطن وطهران، فإن إيران ترى في ما يفهم أنه غياب أميركي، مناسبة للتقدم داخل ميادين العراق وسوريا ولبنان، بحيث يعتبر السيد حسن نصرالله أن انتخاب عون رئيساً يمثّل انتصارا لخيارات حزب الله في سوريا. وبالتالي لا يمكن اعتبار وصول عون لبعبدا صناعة لبنانية، بل هو نسج إيراني قديم يشهد البلد هذه الأيام ترتيب نهاياته وتوضيب عملية إطلاقه في الأسواق.
ومع ذلك فإن عون هو أكثر العارفين بوهن التسوية وخواء أساساتها على النحو الذي يدفعه لرفض أي خطط لتأجيل مؤقت لجلسة الانتخاب، على ما قيل أنه اقتراح من السيّد حسن نصرالله لترتيب الصفقة مع الرئيس نبيه بري، ذلك أن كل ساعة إضافية ملغّمة بمفاجآت قد تطيح بما راكمه عون من صبر وعناد للوصول إلى مبتغاه. ناهيك عن أن موقف بري المعارض، غير المعطّل، لانتخاب عون، قد ينهل وقوده من معطيات إقليمية ودولية ما زالت تتيح عناداً لإجهاض ما اعتبر اتفاقاً ثنائيا، فرض على الجميع.
وتذهب بعض الآراء في واشنطن إلى اعتبار أن تسليم واشنطن بانتخاب عون، ولو من خلال اللاموقف، لا يليق بأداء الدولة الأقوى في العالم، والتي وجب أن يكون موقفها حازما في تأييد الأمر من عدمه، فيما تتخوّف أوساط مراقبة من أن تكون الحالة اللبنانية نموذجاً يحتذى به للتسليم بمآلات عديدة في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، لصالح الأجندة الإيرانية المتحالفة مع روسيا – بوتين، وأن طهران لا يمكن إلا أن ترى في نجاح صفقة عون انتصاراً على الخيارات السعودية في لبنان وضوءا أخضر يتيح لها المضي في أجنداتها في المنطقة.
ولكن السؤال الأكثر إلحاحاً هو ما مدى قدرة البلد الصغير على أن يحمي نفسه من براكين المنطقة لا سيما تلك التي تقذف حممها من سوريا، على ما أراد سعد الحريري تقديمه مسوّغاً لاتفاق مع ميشال عون؟ ومن الأسئلة أيضا ما تعلق بالراعي الإقليمي والدولي الذي سينصب خيمة تبارك العهد الجديد، طالما أن الرعاة في المنطقة، سواء أكانوا أتراكا أم سوريين أم إيرانيين أم حتى مصريين، غارقون في ملفات بيوتهم، متناقضون في ما بينهم حول شراكة مفقودة لإدارة ملفات الإقليم. ثم ألا يحتاج لبنان إلى رعاية دولية تفتح له منابع المنح والقروض والمساعدات وتشرّع له أسواق العالم؟ ثم هل يمكن للبلد الصغير أن يفرض أمرا واقعا على الكبار، أم أن الجراحة الجارية في المنطقة قد تحيل التفصيل اللبناني هامشيا لا تلحظه التحوّلات الكبرى القادمة؟