يقف المتابع لتطورات الأوضاع في تركيا منذ الانقلاب الفاشل الذي عاشت على وقعه البلاد يوم 15 يوليو 2016، أمام قراءتين مترابطتين؛ تتعلق الأولى باستغلال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لهذه العملية ليحكم قبضته على البلاد ويمضي قدما في طموحاته الرئاسية المطلقة، بينما كشفت الثانية أن لا مجال لاستمرار تركيا الأردوغانية بعيدا عن قواعد تركيا الأتاتوركية وسياساتها.
أردوغان الأتاتوركي
أنقرة – لم تتجاوز تركيا حدث محاولة الانقلاب التي جرت في 15 يوليو الماضي، واعتقل على إثر فشلها المتورطون ونشطت ورشة تطهير داخلي كشفت حجم الاختراق الذي أحدثه “التنظيم الموازي” داخل بنية الدولة التركية.
وتركّز غضب النظام السياسي التركي بزعامة رجب طيب أردوغان على شخص فتح الله غولن، المقيم في ولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة، مصدوما من تحوّل الداعية، الذي كان حليفا لمسار حزب العدالة والتنمية في شقّ طريقه نحو السلطة، إلى أكبر خطر كاد يطيح بكل ما راكمه حزب أردوغان داخل البناء السلطوي التركي منذ عام 2002.
بالنسبة إلى الأتراك، شعبا ومؤسسات وأحزابا معارضة، فإن أمر الانقلاب أطلّ بصفته صراعا داخل صفوف الإسلام السياسي على الاستئثار بالسلطة. وكبت الأتراك حنقهم من ذلك التواطؤ الخبيث الذي جمع أردوغان بغولن. تعرفوا على الأول في وجهه السياسي منذ أن كان ينشط تحت عباءة نجم الدين أربكان، الأب الروحي للإسلام السياسي التركي، وتعرفوا على الثاني في إطلالة دعوية لا تقترب من شؤون السياسة وأفخاخ السلطة، ويروّج حضوره إلى ما هو خيري تربوي عبر شبكة جمعيات ومدارس تجاوز انتشارها حدود البلاد.
يتذكر خبراء الإسلام السياسي ذلك التواطؤ الذي جمع الشيخ حسن الترابي بالجنرال عمر حسن البشير في السودان. وصل التواطؤ بين الرجلين إلى حدّ الادعاء بإدخال الترابي السجن مع من اعتقلوا لحظة الانقلاب على حكومة الصادق المهدي (يونيو 1989) لإخفاء ما هو مشترك بينهما، إلى أن ظهر، في ما بعد، أن جنرال السودان الجديد يخرج من عباءة شيخها العتيق.
يشبه الصدام بين البشير والترابي في السودان الصدام بين أردوغان وغولن في تركيا. فالأمر كلاسيكي في أن الشريك الخفيّ يريد حصته كاملة داخل صفوف الحكم، فيما الأردوغانية في واجهة السلطة لم تعد تسمح بأن يتقدم ما هو خلفيّ نحو صدارة المشهد.
لم يكن “التنظيم السري” الذي باشره غولن داخل تركيا العميقة مؤامرة من قبل الداعية ضد حلفه السابق. كان أردوغان يعرف أمر ذلك ويعتبره ضرورة متّفق عليها للتأثيث لوصوله وصحبه إلى حكم البلاد. وكان زعيم حزب العدالة والتنمية يعرف وجود الاختراق الصديق ولم يدرك حجمه وتعقّد شبكاته إلا حين تحوّل إلى اختراق عدو قبل سنوات على محاولة الانقلاب.
وعليه باتت تركيا برمّتها – طالما أن لذلك التنظيم أساطير ومزاعم لا يمكن التأكد من صحتها – خصما كامنا بالنسبة إلى نظام حكم العدالة والتنمية، على ما تفصح عنه موجات التطهير التي لا تنتهي، والتي لا يبدو أن هناك حدودا لنهايتها.
قطيعة مع الأردوغانية
تغيرت تركيا منذ 15 يوليو. خرج الشارع لحماية النظام السياسي وصون الديمقراطية ضد العسكر. وحين نتحدث عن الشارع نقصد أنصار الأحزاب العلمانية والأتاتوركية المعارضة قبل أنصار حزب أردوغان، بمعنى آخر بات الشارع حاميا للحاكم، وفي ذلك سقوط مدو لهيبة الرئيس الذي كان يخطط لأن يكون سلطانا.
وضعت المحاولة الانقلابية حدودا لطموحات أردوغان من جهة، وأيقظت صحبه من حالة التسليم بخطط زعيمهم الطموحة على رأس البلاد من جهة أخرى. شيء ما اهتز في علاقة الحزب الحاكم بالحكم كما في علاقة الحزب بقائده.
انقلاب السياسة الخارجية التركية الذي ينظر له يلدريم يعبر عن مصالح تركيا وليس عن طموحات أردوغان السلطانية
بات الحزب في تمثيله للنخب والمصالح يشدّ السياسة في البلاد نحو مفترقات بدا أنها تمثّل قطيعة مع الأردوغانية التي راحت تنزلق باتجاهات قصوى لا تحتملها تركيا، كما لا تحتملها حسابات الإقليم ومصالح العواصم الكبرى.
في أوساط أنقرة السياسية من بات يعتبر أن جهاز الحكم في تركيا لم يعد يعمل لحساب الأحلام اليومية لأردوغان. تُذكّر تلك الأوساط بأن صعود حزب العدالة والتنمية داخل البنيان الأتاتوركي للسلطة في البلاد لا يدين، للمفارقة، إلى الخلفية وخطاب الإسلاميين للحزب، بل إلى تعويله على وقائع الأرقام ومعدلات النمو ومستويات التبادل الاقتصادي التي تحققت بالتحالف مع قطاع الأعمال والمال في البلاد.
وتعترف أوساط غربية مراقبة للشأن التركي بأن تجربة الإسلام السياسي التركي بالطبعة الأردوغانية الأولى كانت حاذقة في الترفع عما هو شعار ديني كذلك وهو الذي رفعه “الإخوان” العرب بأن “الإسلام هو الحلّ” قبل أن يتخلى عنه البعض من هؤلاء العرب متأخّرين، وفق النسخة اللاحقة التي تقدم بها راشد الغنوشي في تونس.
مكنت تلك البراغماتية الحاذقة حزب العدالة والتنمية وسيّده من أن يحظيا برعاية الأتراك، وربما بإعجاب المجتمع الدولي، الذي ربما أراد لذلك النموذج تعميما ينسحب داخل البلدان العربية، لكن نخب حزب العدالة نفسها تعترف بأن النسخة الأردوغانية الأولى قد أصابتها “لعنة” النسخة العربية للإسلام السياسي، بحيث قذفت رجب طيب أردوغان باتجاه سلوك شعبوي يتصيّد من خلاله الانفعالات الشعبية المتجاوزة للأتراك والطامحة إلى دغدغة مشاعر الشعوب العربية والإســلامية في استعادة لتاريخ عثماني غابر.
وبدا أن سجاله مع الرئيس الإسرائيلي الراحل شمعون بيريز في دافوس (2009) مرورا بحادثة قافلة مرمرة بالقرب من شواطئ غزة (2010) وصولا إلى انخراطه العلني في أحداث الربيع العربي (منذ 2011)، يصبّ داخل طموحات الرجل في تبوء موقع ما فوق رئاسي وما فوق تركي يرسمه سلطانا تركيا جديدا لخرائط سايكس بيكو.
تركيا العميقة
لم يعد قطاع المال والأعمال التركي يرى في طموحات أردوغان مصلحة يمكن التعويل عليها، كما لم يعد جيش التكنوقراط والمستشارين، وحتى سياسيو الحزب في دواخل تركيا، يرون في الأردوغانية طريقا مثاليا وحيدا للبقاء في الحكم وتمدد آفاقهم داخله.
تعترف الأوساط الداخلية بأن صعود “الإخوان” العرب في لحظة معينة أغرى الحزب وزعيمه بدور يتجاوز حدود تركيا الأتاتوركية
في أنقرة، وداخل أروقة الحزب كما أروقة الحكم، هناك من يرى انتهاء الأردوغانية حتى لو بقي أردوغان رئيسا وحاكما.
بدا أن صدمة الانقلاب أعادت ضبط الرئيس التركي داخل قواعد تحددها المؤسسات التركية التي تسيّرها نخب “تركيا العـميـقة” المتعـايشة مع نخب الحـزب الحـاكم.
داخل حزب العدالة والتنمية جدل حول وظيفة الحزب في إنتاج السلطة في تركيا. يجمع الجدل على تركيبة الحزب شكلا ومضمونا ومشروعا، وعلى ضرورة ألا تكون للحزب التركي علاقة، حتى وفق بيئته الثقافية الإسلامية، بحراك الإسلاميين خارج تركيا.
تعترف الأوساط الداخلية بأن صعود “الإخوان” العرب في لحظة معينة أغرى الحزب وزعيمه بدور يتجاوز حدود تركيا الأتاتوركية، قبل أن يردعهما أفول الظاهرة الإخوانية العربية وتعيدهما المحاولة الانقلابية إلى حدود تناسيا الالتزام بمقاييسها.
والمفارقة، أن الحزب الإسلامي التركي الذي لطالما كان حذرا من “غدر” العلمانية المتأصلة داخل البلد، مجتمعا ومؤسسات، كاد يفقد الحكم ويخسر نظامه على يد الإسلام السياسي (كما يراه غولن) الذي يتناسل من حكاياته.
قد يذهب بعض الخبراء الأتراك بعيدا في تخيّل سيناريوهات قد تعتمدها نخبة الحكم في تركيا للتأكد من خضوع أردوغان لمصالح تركيا، وبالتالي مصالحهم في حكم تركيا، لكن تحليلات بعض المخضرمين في تأمل أروقة السلطة في أنقرة يلحظون أن السيناريوهات لم تعد متخيّلة وأن أردوغان نفسه أعدم الأردوغانية وأن انقلاب السياسة الخارجية التركية، الذي ينظّر له رئيس الوزراء بن علي يلدريم ليقضي على المقاربة السابقة التي يُحمّل أحمد داوود أوغلو وزرها، يعبّر عن مصالح تركيا الحقيقية وليس عن طموحات أردوغان السلطانية.
تدعو هذه الأوساط إلى تأمل خيارات أنقرة الجديدة في سوريا والعراق كما انعطافة أردوغان الرشيقة باتجاه التحالف الطويل الأجل في روسيا. لا ترى تلك الأوساط في عملية درع الفرات في شمال سوريا كما في الإطلالة على شمال العراق من خلال معسكر بعشيقة إلا سلوكا أتاتوركيا كان سيعتمده أي نظام سياسي سابق على حكم حزب العدالة والتنمية. فتركيا الداخل بموالاتها ومعارضتها باتت مجمعة على ردع “الخطر الكردي” كما ذلك الذي بات يشكله تنظيم داعش ضد البلاد.
بعض المراقبين يعتبرون أن خطاب الدفاع عن أهل السنّة لا يصدر هذه المرة عن أردوغان الإسلامي بل عن أردوغان الأتاتوركي الذي يدافع عن مصالح تركيا بما تيسّر من أدوات، بما في ذلك تلك الطائفية. وحتى العلاقة مع روسيا تتأسس على قماشة المصالح الاقتصادية التي لم تعد ترى أن حكم أردوغان السلطان يمر من شرفة الصدام مع بوتين القيصر.