لماذا يحق لإيران ما لا يحق لتركيا/ماجد السامرائي

لا يمكن لأي عراقي إلا أن يؤيد الشعارات والمواقف الحكومية العراقية التي تقول برفض التدخل التركي في الأراضي العراقية مهما كانت مبررات ذلك التواجد العسكري. ذلك لأن هذا العراقي قدم دمه عبر التاريخ ضد أي احتلال لوطنه لكي يظل بلدا مستقلا عزيزا. لكن الشعارات والمواقف حين تكون انتقائية وتصعيدية، فهي تعكس انحيازا وتعبيرا عن مواقف الآخرين، وليس عن الموقف العراقي المستقل وتصبح تثير الكثير من التساؤلات المشروعة.

2009

ذلك أن هذا التصعيد الإعلامي قبيل تحرير مدينة الموصل يأتي لما يثيره ما بعد تحريرها من سيناريوهات مريبة تطمس مقومات وحدة أهل المدينة العراقية عبر التاريخ وستضر بالنسيج الاجتماعي عبر التفكيك القومي والمذهبي، وستضمها إلى ما حصل من أضرار بمدن العراق العربية السنية التي تحررت من داعش وسينعكس ذلك على وحدة العراق ويسهل تقسيمه أو خضوعه لهيمنة من هذا الطرف الإقليمي أو ذاك.

هذه التساؤلات العراقية ليست خاضعة لوجهة نظر سياسية أو طائفية، بل تستند إلى أهم الحقائق التاريخية والسياسية وصولا إلى نتيجة بسيطة تشير إلى أن ما يمر به العراق اليوم هو مخاض لتداعيات خطيرة على مستوى الحكم والتأثيرات الإقليمية والدولية التي يخضع لها السياسيون وتمنع سيادة الإرادة الوطنية. الأمثلة التاريخية التالية مقارنة سريعة للرغبات والمطامح الإيرانية والتركية في العراق.

الحقيقة التاريخية الرئيسية هي أن هذا البلد وما يتمتع به من أهمية تاريخية واستراتيجية لم يتركه الطامعون إلا حينما يتمتع بدولة قوية راسخة يهابها الآخرون، وحاليا يعيش العراق أوهن حال ضعيفا ممزقا مستباحا من الآخرين. ولعل إيران الفارسية هي في مقدمة من وضعه وسادة لها وميدانا لأي صعود تحلم به.

محطات تاريخية واضحة لا تقبل الاجتهاد منذ احتلال الفرس لبابل وصراعهم مع العرب عام 606 قبل الميلاد، ومحاولات إسماعيل الصفوي تشييع أهل العراق عند احتلاله بغداد عام 920 والقصة معروفة عن المجازر التي اقترفها بحق السنة في بغداد بالقتل والتدمير ونبش قبري أبوحنيفة وعبدالقادر الكيلاني، لكنه فشل في مخططه.

وفي العصر الحديث طالبت إيران بريطانيا عام 1915 بعقد اتفاقية تضم إليها المراقد المقدسة في كل من الكاظمية ببغداد وسامراء إضافة إلى كربلاء والنجف، ولهذا لم تعترف بالدولة العراقية التي تأسست عام 1921 في عصبة الأمم إلا بعد ضغط بريطانيا عليها عام 1929.

وبعد مجيء نظام ولاية الفقيه (خميني) عام 1978 تجددت المطامع في العراق، وانتقلت من مستوى إثارة المشاكل الحدودية إلى نمط جديد يتجاوز الوسائل الدبلوماسية بعد حرب الثماني سنوات 1980-1988 إلى اعتماد الذراع العسكرية، فيلق القدس، الذي تزعمه في ما بعد قاسم سليماني، ليصبح الشعار المذهبي الشيعي وسيلة لتمرير الوجود الإيراني في العراق وتأجيج الصراعات الطائفية التي لم يكن لها وجود بين أبناء البلد الواحد من الشيعة والسنة، وتصاعد خط النفوذ بعد الاحتلال الأميركي عام 2003.

الإيرانيون وعبر تصريحات مسؤوليهم لم يخفوا دعواتهم الكثيرة لضم العراق إليهم، فقد سبق لصادق قطب زادة، وزير خارجية إيران أن قال، “العراق جزء من إيران”، والرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد صرح في أغسطس 2007 “بأن إيران مستعدة لملْء الفراغ في العراق بعد انسحاب الأميركان”.

نظام ولاية الفقيه لا يحتاج إلى ما يسمّى بالفقه الدولي، احتلال جيش رسمي لدولة أخرى، لأن “الحرس الثوري” يحقق هذا الهدف دون إحراج دولي، وهناك تدفق للإيرانيين إلى داخل العراق من دون قيود خاصة في المواسم “الشعبانية”، حيث جرت في العام الماضي فوضى اعترفت بها القوات الحكومية حين دخل أكثر من (1.6 مليون) زائر لأربعينية الحسين من دون تأشيرات رسمية.

لنقارن هذه الحقائق وغيرها مع ما تنفذه تركيا من سياسات في العراق، فهي لا تمتلك بعد نهاية إمبراطوريتها العثمانية عام 1918 على يد بريطانيا أي نفوذ عسكري أو سياسي داخل العراق، لا شك أن لديها سياسة الرعاية القومية والدفاع عن مصالح التركمان في العراق، لكنها لا تمتلك قوة ميليشياوية محلية تابعة لها، ومشكلة التركمان أنهم انقسموا إلى شيعة وسنة بفعل حالة الانقسام الإثني والعرقي التي نمت وتصاعدت بعد العام 2003، كما أنها لم تدَّع يوما بأن العراق جزء من تركيا.

لديها مشكلات الأمن الوطني التركي الذي يتعرض إلى الخطر بسبب العمليات العسكرية لحزب العمال الكردستاني، ولديها اتفاقات لتأمين تركيا من مخاطره مع الحكومات العراقية منذ العام 1994 وحتى العام 2014 وأخيرا اتفاقيتها الداخلية مع مسعود البارزاني النافذ في منطقة كردستان، ولا تمتلك حكومة بغداد قدرة على زحزحته من الأراضي التي استولى عليها بعد احتلال داعش 2014، وقد عقد أخيرا مذكرة تفاهم مع الأميركان الممتلكين لأكثر من 5 آلاف جندي في المنطقة ويبنون حاليا قواعد عسكرية دائمة، إلا أن حكومة حيدر العبادي أخذت تصعّد من حملتها ضد تركيا في التوقيت الخطأ، رغم أن العراق بحاجة إلى الدعم الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة وتركيا جزء منه للقضاء على داعش وطرده من الموصل.

حكومة بغداد تطالب اليوم بخروج القطعات التركية من المناطق المتواجدة فيها، وهذا بسبب ما يعنيه هذا التواجد التركي من معطيات جيوسياسية لما بعد تحرير الموصل. أردوغان يطالب بعدم إجراء تغييرات ديموغرافية في مناطق مهمة مثل تلعفر وغيرها، وهو ما يفسر وفق التوصيف الطائفي المتداول، “هيمنة التواجد الشيعي” على السنة لتنفيذ رغبات إيرانية بفتح الطريق أمامها للمرور عبر منطقة الحدود العراقية السورية، والمساهمة في إرسال المقاتلين من المتطوعين الشيعة من العراقيين والأفغان والباكستانيين وتزويد النظام السوري بالأسلحة والعتاد بشكل انسيابي وبحرية. وكذلك السيطرة على مطار تلعفر العسكري الذي يعتبر من أهم المواقع العسكرية المهمة داخل محافظة نينوى، وهو الذي سيسهّل تنقلات المستشارين والضباط الكبار الإيرانيين والمقاتلين والمتطوعين من مطار بغداد إلى ذلك المطار، وتسهيل دخولهم إلى الأراضي السورية لدعم المشروع الإيراني وحماية النظام السياسي الحاكم في سوريا.

كما أن تواجد حزب العمال التركي داخل الأراضي العراقية، الذي أصبح يقاتل عبر سلسلة من المواجهات العسكرية التي جرت ولا زالت تجري في المناطق المحيطة والقريبة من قضاء سنجار وداخل ناحية ربيعة شمال الموصل، يشكل عمقا يهدد الأمن التركي، وبالتالي فإن هذا الحزب سيقاتل جنبا إلى جنب مع مقاتلي الحشد الشعبي في حال دخولهم إلى قضاء تلعفر، بسبب العلاقة المتينة التي تربط حزب العمال بحكومة بغداد والمساعدات المالية والعسكرية التي تصله عبر مطار السليمانية وبإشراف من قاسم سليماني الذي كلف أبومهدي المهندس ليكون وسيطا بين قيادات الحشد الشعبي وحزب العمال وإيصال المساعدات إليهم.

تركيا تسعى لكي تكون حاضرة من خلال تواجدها العسكري في أي حوار سياسي قادم حول الأوضاع القادمة التي ستعيشها مدينة الموصل ما بعد التحرير، والحكومة التركية سوف لن تكتفي بالمراقبة، وهذا ما أثار استياء الحكومة العراقية التي جددت رفضها لأي دور تركي في معركة الموصل.

ولهذا يتضح أن التصعيد السياسي والإعلامي من حكومة بغداد وسياسييها ضد تركيا لا ينطلق من مشكلة تواجد القوات الكردية في مناطق محدودة منذ 22 عاما. وإذا أرادت حكومة العبادي ترجمة شعارات السيادة بصورة عادلة على الواقع، فعليها إعلان جميع القوات العسكرية الأجنبية في العراق غير مرغوب فيها حتى وإن كانت تعلن حربها ضد داعش.

ووفق التوصيف الطائفي الذي يتداوله السياسيون العراقيون والدول النافذة، فإن ما واجهه العرب السنة من انتهاكات وضعهم في مآزق عدة كان أولها تشبثهم بمهادنة تنظيم داعش في الأيام الأولى من احتلاله للمدن العربية السنية، وكذلك البحث عمن يناصرهم، وتركيا هي من أول المناصرين لمحنتهم الحالية، سواء أكان ذلك صادرا عن منطلقات مبدئية أم أجندات سياسية، ومن يريد منع ذلك عليه الذهاب إلى الحلول الجذرية في إنصاف العرب السنة، وليس إلقائهم في تيه الصحراء، فهم لم يجرموا بحق إخوانهم العرب الشيعة بل تقاسموا معهم الوطن.

أليس التمحور الطائفي والاستناد إلى دولة كبيرة نافذة كإيران، يقودان الطرف العربي السني للتشبث بتركيا السنية وهي صاحبة نفوذ وصداقة مع كل العرب. أليس ما يحق لإيران يحق لتركيا في ظل ما سينفذ في العراق من سيناريوهات مريبة؟

نقلاعن العربیه