أفضل الآليات لمجابهة التحديات التي تفرضها الأصوليات الحديثة/ إميل أمين

الأصولية المنغلقة تعد من الأخطار الكبرى التي تعصف مجتمعات العالم، إذ لا يمكن حل أي مشكلة في مجتمع ما انطلاقًا من معتقداته الجامدة، ويكمن خطرها برفضها الحوار ورفضها الاعتراف بهوية الآخر. أما أخطر أنواعها فهي تلك التي تلوي عنق النص الديني – في أي دين – تبريرًا لمواقف متطرفة بعيدة كل البعد عن روحه. وفي مقدمة التحديات في مواجهة الفكر الأصولي، وفق التعريف الدارج، مسألة ادعاء امتلاكه الحقيقة المطلقة.

2704

أصل الإشكال قضية التشدد «الأصولي» يمكن إرجاعه إلى الفيلسوف إيمانويل كانط الذي بلور مصطلح «الدوغما»، أي الاعتقاد الزائف في قدرة الإنسان على اقتناص المطلق، لأن الإنسان عاجز بحكم طبيعة العقل عن هذا الاقتناص. ولهذا ألف كانط كتابه الشهير «نقد العقل الخالص» لكي يكشف عن هذا العجز أبستمولوجيًا، أي استنادًا إلى نظرية المعرفة. ومن وضع الفلسفة النقدية مقابل الدوغماطيقية، وكان يقصد بالفلسفة النقدية قدرة العقل على كشف جذور الوهم القائم في تصور إمكان اقتناص المطلق. وتأسيسًا على نظرية المعرفة هذه يمتنع تأسيس المجتمع على مطلق معين، أي على دوغما ومن ثم تصبح الديمقراطية هي البديل عن الدوغماطيقية.

وبسبب انعدام المحبة والصفح أو الغفران، يحيي «الأصوليون» المتشددون تاريخ الصراعات الدينية لكي يسوغوا رغبتهم في إقصاء الآخر المختلف. وفي هذا الإطار يستحضر بعض اليهود خلافاتهم مع المسلمين في شبه الجزيرة العربية وزمن نزول النبوة، ومعاركهم مع الأوائل من المسلمين. ويستحضر بعض المسلمين تاريخ الحملات الصليبية. ويستحضر بعض المسيحيين تاريخ المماليك والعثمانيين. والحقيقة أن الأطراف الثلاثة تبغي تسويغ تصرفاتها السلبية تجاه الآخر المختلف، وتطرف الأصولي اليهودي أو المسيحي أو المسلم في الإيمان يدفعه إلى التطرف في الموقف، معتبرًا بذلك أنه يتفاني من أجل رسالته، وقد يضحي بحياته من أجلها، وهذا ما يدفعه أكثر فأكثر إلى سلوك طريق الشهادة التي تؤدي به إلى ملاقاة وجه ربه، وهذا أقصى ما يحلم به ويتمناه.

* تنمية القيم الإنسانية

ما أفضل طريق يمكن للأديان تقديمه للبشرية في القرن الواحد والعشرين لمواجهة ومجابهة «الأصوليات» المتطرفة؟

المؤكد أن القيم الإنسانية تمثل رابطًا عامًا، وقاسمًا أعظم مشتركًا يمكن للأديان أن تعيد اكتشافها في نفوس الناس. ومن هذه الحقوق الأساسية والقيم الإنسانية الحق في الحياة والحق في التمايز، والحق في التميز، والحق في الاحترام. وهناك كذلك المبادئ الإنسانية الرئيسية مثل الحرية والعدالة، والمساواة والرحمة، وحب الجمال والانسجام الخلقي. وجميع هذه القيم لا يُختلف عليها كأساس متين وقوي في الأديان الإبراهيمية الثلاثة وترسيخ وجودها يعني تقليص مساحات التطرف و«الأصولية».

على أن مسالة الحرية والحق مسألة دقيقة ويجب أن تُفهم على حقيقتها.. لا حرية مطلقة لأي إنسان، فحرية الفرد محدودة بحرية الآخر الذي يشاركه العيش في الدائرة نفسها، الجماعة الدينية، المجتمع، الوطن. والحق كذلك، فحق الفرد يقف على حق الآخر، أو حق الجماعة المنتمي إليها هذا الفرد.

هذه القيم الإنسانية حاضرة في كل إنسان، ولكن بنسب متفاوتة فبقدر ما يشجع الإنسان على برزوها في مسلكيته تكون حاضرة. وكلما عاد الإنسان إلى إنسانيته يعود إلى هذه القيم، وتختفي هذه القيم تحت ركام «الأنا» المتجسدة في التكبر والطمع. وقد تكون هذه «الأنا» فردية أو جماعية، مثل «أنا» القومية أو الوطنية أو القبلية أو العائلة أو حتى الفرقة الدينية. وفي هذا السياق يجب ألا يكون الدين متعارضًا مع هذه القيم، بل يجب أن تكون هذه القيم متضمنة في منظومة الدين الأخلاقية، لأن الله هو محور كل دين، وأما التعبير الديني فبشري، فيأتي في المظهر الثقافي، حيث يوجد الإنسان المعبر عن تدينه. ولهذا يجب أن تكون مهمة الدين العليا هي إبراز هذه القيم الإنسانية في الفرد والمجتمع، وتدريب الإنسان على العيش فيها.

إن فعل العبادة في الدين ما هو إلا عملية غرز أخلاقية الله في العابد، وكل ممارسة دينية تهدف إلى تدريب الممارس على العيش في هذه القيم. وأي ممارسات دينية على خلفيات أصولية تعارض هذه القيمة الإنسانية يجب أن يشك في جدواها، فأي توجه ديني أو آيديولوجي يتسبب في تعدٍ على الفرد في أي من هذه القيم الإنسانية يجب أن يعاد النظر فيه.

* المشترك بين الأديان

ضمن الآليات التي تساعد في مواجهة تحدي الأصوليات عند الأديان الإبراهيمية الثلاثة، البحث في الماضي المشترك وأوقات التعاون والتسامح وقبول الآخرين اليهود والمسيحيين والمسلمين بنوع خاص. ولعل أفضل من يعطينا رؤية عن أداة المجابهة هذه، المؤرخ والكاتب الأميركي الشهير زاكاري كارابل في كتابه «أهل الكتاب.. التاريخ المنسي لعلاقة الإسلام بالغرب»، الذي يذهب فيه إلى أننا جميعًا أسرى ثقافتنا بدرجات متفاوتة. ومع بعض الاستثناءات يمكن القول إن الصورة الحالية للعلاقات ما بين المسلمين والمسيحيين واليهود صورة سلبية، وأن الاعتقاد بدوام وجود الصراع قد يرسخ بشكل عميق. وإذا كان للقصص المروية في صفحات التاريخ أن تقول شيئًا فهو أنه هناك وجهة نظر مختلفة: كان هناك عبر التاريخ تعاون فعال، وكان هناك تسامح، كما كانت هناك فترة عدم اكتراث. والطريقة الوحيدة لوصف مسيرة أربعمائة سنة كتاريخ من الصراع، هو أن ننسى ونتجاهل القصص الإيجابية في التاريخ بين الأديان الثلاثة، لأن أحدًا لم يفكر بأنها تستحق التدوين. لا تكمن المشكلة في رؤيتنا للماضي فقط، فعندما تنظر أجيال المستقبل إلى النصف الثاني من القرن العشرين والعقود الأولى من القرن الحادي والعشرين، سترى كمًا غير متسق من المعلومات، وما لم يحاولوا إيجاد قصص أخرى فسوف ينطبع في أذهانهم أن هذه السنوات – أي حاضرنا – اتصف بحرب بين الحضارات، وبعداء متزايد بين المسلمين والمسيحيين واليهود، وسيقولون إن زماننا اتسم بتصاعد العنف فيه والأعمال الإرهابية والتفجيرات الانتحارية والخوف من استحواذ واستخدام جماعة ما لأسلحة الدمار الشامل.

سوف نعذر أجيال المستقبل هؤلاء فيما لو نظروا إلى الماضي البعيد، وقصّوا الروايات عن التباغض بين العقائد والأديان الثلاثة، بفعل توجهات غلاة «الأصوليين»، الذي استمر عبر القرون.

اليوم يتشارك المسلمون والمسيحيون واليهود في الذنب بسبب تركيزهم العنيد على الصراع. إذ يميل كل فريق منهم إلى تصوير الماضي وكأنه سلسلة من المظالم عانى منها على أيدي الفريقين الآخرين. فالغربيون، سواءً كانوا ملتزمين بدين منظم أم لا، فهم مهيأون فكريًا لاعتبار المجتمعات المسلمة مجتمعات متخلفة تميل إلى الحرب والعنف، في حين يميل أغلب سكان العالم المسلم إلى الاعتقاد بأن الغرب يحمل نية سيئة نحو الإسلام والمسلمين، ولا يرغب في السلام ولا بالتعايش بل يريد السيطرة الاقتصادية والثقافية.

إن تاريخ الصراع ليس غير حقيقي، ولكنه ناقص، وللسبب ذاته فإن حقيقة التعصب الديني في العالم الحديث لا يمكن التقليل من شأنها. نعم، هناك متطرفون يكرّسون حياتهم لإنزال الألم والموت بمن لا يوافقهم في وجهات نظرهم. وهناك صراع عربي إسرائيلي محتدم يبقى مصدرًا للألم والغضب لكل من يشارك فيه. ومع ذلك هناك قصص أخرى تحظى باهتمام أقل لكنها تشكل جزءًا لا بأس به من الناحية الإيجابية للصورة الكاملة. والشاهد أنه في عالم تجعل فيه التكنولوجيا من السهل لقلة من الغاضبين أن يلحقوا أذى كبيرًا بالناس، فإن دوام شكل من الصراع لهو أمر خطير، وأن تذكر أن كلا من الأديان الثلاثة يحمل بذور السلام أمر غير كاف لشفاء العالم.

إن اكتمال الصورة اليوم لن يحول الراديكاليين العنفيين من الحرب إلى الحب، ولن يجبر بمفرده العالم الغربي على تغيير رأيه في الإسلام. ولكننا إذا وضعنا هذه القصص في فهمنا للماضي والحاضر، فإن التدين قوة تندفع عبر الماضي لكنها ليست القوة الوحيدة. ولا بد من لقاء، ولكن لا لقاء من دون حوار.

* الحوار بين المختلفين

المؤكد أن الحوار بالتي هي أحسن وبالموعظة الحسنة، لهو أفضل الآليات لمواجهة الأصولية والتشدد والعنف، ذلك أن الموعظة الحسنة تعتمد على وسائل وأساليب تساعد من يحاور أن يقبض على نواحي الأنفس، وتحريك العواطف والانفعالات الإنسانية وتوجيهها إلى طريق الحق والخير.

إن الحوار يلين القلوب القاسية بقوة تأثيره، وإذا ما انحلت العقد النفسية عند المتشددين والغلاة عاد الإنسان منهم إلى فطرته الصافية التي تقبل الحق وتستجيب له. والموعظة الحسنة تتطلب من المحاور أن تقوم موعظته على الصحة والالتزام بها، ويسلك في عرضها الأصول المنطقية الفكرية السليمة، ويتجرد عن الأغراض الشخصية، وأن يكون في ذاته وأخلاقه وأعماله قدوة حسنة، واتخاذ وسائل الرفق واللين في الحوار، وتنزيل الناس منازلهم.

وممارسة الحوار بين المختلفين دليل شوق عند المتحاورين إلى أن يتعرفوا بعضهم إلى بعض أكثر، للتعبير عن حاجتهم لبعض من أجل إرساء حياة مستقرة في الجماعة. وهي بالتالي، دليل سعى للسلام، في حين أن رفض الحوار دليل روح سلبية عند الأفرقاء الذين يعيشون في دائرة واحدة، مهما صغرت أو كبرت هذه الدائرة وهي تتفاوت من الحي إلى الكرة الأرضية. وتبدأ مسيرة الحوار الديني بتعزيز الحوار بين الأفرقاء المعتدلين في كل دين، الذين لا يأخذون بالفكر الإقصائي وسلبياته، ويؤمنون بالتعددية والحريات العامة وحقوق الإنسان. مع التركيز على أنه لا يجب أن يتوقف الحوار على المتحاورين من الطبقة المثقفة، بل يجب أن يمتد إلى العامة ضمن خطوات مدروسة لتعم ثقافة الحوار أرجاء الوطن، ويمتد الحوار إلى مجالات مختلفة من الحياة.

* العدالة العالمية

على صعيد ثانٍ، لعله من بين أهم الآليات التي يمكن من خلالها مجابهة التطرف «الأصولي» القائم على الإقصاء والإلغاء، تلك المتعلقة بإدراك شكل من أشكال العدالة الدولية في حل الإشكالات والصراعات حول العالم. وفي كتابه «صراع الأصوليات.. التطرف المسيحي والتطرف الإسلامي والحداثة الأوروبية» يحدثنا الأكاديمي الألماني هاينريش فيلهلم شيفر عن موقف «الأصوليين» الإسلاميين، تحديدًا، من قضية العدالة. إنها تعتبر بشكل تقليدي عند «الأصوليات» الإسلاموية عاملاً مهمًا من أجل التعبئة، كما تعتبر قضية العدالة مجال اهتمام عالمي مشترك بين الحركات الإسلامية والمحلية والعلمانية الاجتماعية الإصلاحية.

وهنا يوجد للحركات الإسلامية موقف خاص فيما يتعلق بتعبئة الأتباع وحشدهم، فـ«الأصولية» هنا تقوم بالتعبئة أيضًا باسم العدالة العالمية، هذا بجانب مصالحها الدينية، وفي هذا الإطار تعالج هذه الأصولية موضوع «العدالة الاجتماعية» ولكن ليس بوصفه صراع مصالح، بل تتولى تحويله إلى صراع هوية وتعالجه دينيًا.

في المقابل، تمارس «الأصولية» المسيحية في الولايات المتحدة التعبئة من أعلى بهدف تأمين مصالح الهيمنة الأميركية. وهنا لا يكون الإقصاء الاجتماعي هدفًا في حد ذاته بل تبعة مقبولة ببساط من تبعات هذه السياسة. كما يجري استبعاد مواضيع العدالة العالمية من عملية التعبئة بشكل أساسي لصالح مواضيع السيطرة العسكرية والسياسة الأميركية، وإقصاء الآخرين. وبالتالي، يغدو الصراع بين كلتا «الأصوليتين» صراع هوية تمتد جذوره في صراعات المصالح المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والسيطرة العسكرية.

نقلا عن: ایلاف