تونس: بين الشاهد على الفساد والشاهد ضده!/محمد قواص

تونس ما زالت تنتظر ثورة حقيقية لمكافحة الفساد. ليس بالضرورة بأدوات الشارع التقليدية التي باتت تمقتها كل المنطقة، بل من خلال تصحيح ذاتي تواكبه ترسانة قوانين وتشريعات لا يجب أن تكون مستحيلة.

2598

تأمل العالم في أوائل عام 2011 ما أطلق عليه اسم “ثورة الياسمين” في تونس دون أن يخطر ببال أحد أن إضرام محمد البوعزيزي النار بنفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد في ذلك البلد سيضرم نيران لا تتوقف في كل المنطقة العربية. لا البوعزيزي قصد ذلك ولا الجموع التي خرجت متضامنة مستنكرة سعت لذلك. فجلّ ما طمح إليه التونسيون قليلا من الإصلاح وقليلا من الحريات وقليلا من التدابير لمكافحة الفساد.

“بن علي هرب”. يذكر العرب ذلك الهتاف الذي ردده مواطن تونسي ذات ليل ودأبت فضائية عربية على تكرار بثّه. سقط النظام كما أرادت الهتافات. انتظر أهل البلد أن يطلع عليهم صبح آخر يزيل عنهم عتمة الديكتاتورية وعفن الفساد الذي لطالما التصق بمحيط القصر الرئاسي، وخصوصا تلك القصص التي راجت حول آل الطرابلسي القريبين من ليلى زوجة الرئيس بن علي. هناك فقط كان التونسيون يعرفون أن روائح الفساد تتجمع.

بعد خمس سنوات على الحدث لم يعد التونسيون يعرفون أين هو مركز الفساد في تونس. شاعت الظاهرة وبدت وباء معدياً يتفشى داخل التركيبات الإجتماعية المتّصلة بالسلطة. تبددت روائح الياسمين التي أوحت بها ثورة التونسيين وفاح عبق نتن يتسرّب داخل الحركة الاقتصادية للبلاد في جانبها العام أو ذلك التقصيلي المحلي. تعملّقت الظاهرة حتى باتت قدراً وجب الإذعان لشروطه، حتى أن رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد وقف أمام البرلمان مستسلماً لذلك القدر متهماً ضمناً كل النظام السياسي بالتواطؤ فيه معتبراً “أن مكافحة الإرهاب في البلاد أسهل من مكافحة الفساد فيها.”

تُسقط تونس حكومة الصيد. تُسقط “أحزاب الياسمين” حكومة الرجل معترفة بفشلها وفشله وحكومته على مواجهة أزمات الاقتصاد والفساد والأمن والاستقرار. يرحل الرجل دون أن يعرف أهل البلاد لماذا ذلك الفشل ومن أفشل الرجل الذي أتت به أحزاب الفعل وما الذي يضمن نجاح خلفه الذي اختارته نفس الأطراف والتي لا تشي بأنها لن تستخدم معه كما مع سلفه نفس السلوك.

يوسف الشاهد هو رئيس الحكومة السابع منذ اسقاط بن علي، وحكومته هي الثامنة منذ ذلك الوقت. للمراقب أن يعتبر أن تغيير حكومات البلد بمعدل واحدة كل سبعة أشهر يعكس عدم استقرار سياسي ووهن في حكم البلاد. لكن للمراقب أن يستنتج أن الأمر يعبّر أيضاً عن حيوية سياسية لا تستكين تمارسها القوى الحزبية والنقابية وجمعيات المجتمع المدني على نحو لا يتيح استقراراً لعلل ويعكس توقاً نحو المغامرة في العلاج.

يذهب المتفائلون إلى التعويل على رئيس الحكومة الشاب ذلك أنه ينتمي إلى جيل يعرف شروط العصر ويجيد استخدام أدواته ولم يتلوّث بالملفات التي يختلط داخلها “البزنس” بالسياسة. ويأخذ المعترضون والمتحفّظون على الرجل صغر سنه وطراوة عوده في السياسة في وقت تحتاج به البلاد إلى شخصية قوية لها باع طويل وخبرة ومراس في هذا المضمار. ويتذكّر المتخفّظون أن الرئيس السبسي سبق وعيّن الشاهد رئيسا للجنة التي أنيط بها حلّ أزمة حزب نداء تونس وفشل في ذلك، متسائلين كيف للرجل الذي أخفق في حلّ أزمة حزب أن ينجح في حل أزمة بلد؟

التقط المعترضون (الجبهة الشعبية خصوصاً) أيضاً القرابة التي تصلّ رئيس الحكومة المعيّن برئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي ليحذروا من حكم العائلة والتفرد والسهر على مصالح اللوبيات المرتبطة بأهل السلطة. فيما ذهبت أصوات أخرى تحذّر من مساعي التوريث التي يشتبه بأن الرئيس يحضّرها لنجله حافظ.

أطل يوسف الشاهد على أهل تونس رافعا التحدي ضد خمس اولويات: كسب الحرب على الارهاب، إعلان الحرب على الفساد والفاسدين، الرفع في نسق النمو لخلق الشغل، التحكم في التوازنات المالية، ومسألة النظافة والبيئة. لا تحمل تلك الأولويات جديداً، ولا يهم المواطن أن يسمع بتكرار ممل عناوين أمراض بلده. والمهم والأهم هي الوصفات التي ينوي رئيس الحكومة الجديد تطبيقها والتي عجز سلفه عن اجتراحها، لا سيما أن جُل المراقبين يعتبرون أن أس الداء يكمن في السلوك الحزبي القائم وتواطؤه في تبادل التمريرات على حساب نجاعة العمل الحكومي وفعاليته.

بين نداء تونس وحركة النهضة يجري تفصيل على مقاس التشكيلين الأساسيين في المشهد البرلماني الحالي، وقد يتمدد التواطؤ إلى ما يطلق عليه “الإئتلاف الرباعي” وقد يمتد شكلاً إلى أحزاب أخرى أقل وزناً. ويجمع العارفون في تونس على أن الأحزاب الكبرى تنتج رئيس الحكومة وتريده طيّعا بين يديها منفذاً لأجنداتها، على ما يثقل من حركة الملفات لا سيما تلك المتعلقة بالفساد.

في خطاب الشاهد عزم على تشكيل حكومة سياسية مطعمة بكفاءات وطنية. في المبدأ لن تمر الحكومة في البرلمان إلا إذا رضيت عنها الأحزاب الراجحة، وبالتالي فإن الجسم الحكومي سيبقى مرتهناً لمزاج تلك الأحزاب وسيحول دون أي فعل طموح لرئيس الحكومة الشاب وفريقه الوزاري إذا ما ذهب بعيداً وخارج حدود الملعب المحدد.

من خارج تونس من يراقب التجربة الديمقراطية التونسية بصفتها استثناء على قاعدة وسمت كافة البلدان التي أصابتها لوثة “الربيع العربي”. يجابه هذا البلد الصغير موجات إرهاب تستهدفه، فيما آلاف من أبنائه يقاتلون في صفوف “الجهاديين” في سوريا والعراق. تصدّت تونس البورقيبية لمحاولات أسلمة البلد، تارة بالحراك الميداني في شوارع البلد وتارة في صناديق الإقتراع. تجنّبت تيارات البلد التصادم وراحت باتجاه الحوار الذي استحق رعاتُه جائزة نوبل للسلام. فيما مثّلت حركة النهضة أعراض مشروع لهيمنة الإسلام السياسي على حكم المنطقة، يواظب زعيمها راشد الغنوشي على مراكمة المواقف التي تعزل الدعوي عن السياسي وتلك التي تباعده عن التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين.

وفي تسليط المجهر على أزمة الحكم تبدو تونس ممسكة بزمام المبادرة لجهة التصويب الذاتي للنظام السياسي الحالي. تسير روحية الحكم الراهن في تونس وفق عناوين عامة تحمل إسم وثيقة قرطاج والتي وقعتها تسعة أحزاب وثلاثة منظمات نقابية (الاتحاد التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين) تشكّل السقف المواكب للعمل الحكومي، على نحو يحشر الجدل داخل المشهد السياسي الشرعي على ما هو معمول به في كنف الديمقراطيات الكبرى. وتبدو حركة الشارع التونسي مواكبة منبهة متيقظة جاهزة للتدخل كلما كان ذلك ضروريا لتصحيح شطط المنظومة السياسية ووقف بلادتها.

منذ حكومتيّ محمد الغنوشي مرورا بحكومات الباجي قايد السبسي وحمادي الجبالي وعلي العريض والمهدي جمعة انتهاء بحكومة الحبيب الصيد، عاشت تونس عواصف وأنواء، وتجاوزت استحقاقات أمنية كبرى. ومع ذلك بقيت ظاهرة الفساد متصاعدة عصيّة متجذّرة. وإذا ما كانت الظاهرة معممة على بلدان كثيرة في المنطقة، بيد أن تفاقمها في تونس يتناقض مع واقع الحوار السياسي وغياب العنف الداخلي ولا يتّسق مع حقية عدم غياب الدولة حتى في عزّ الأحداث التي اجتاحت شوارع البلد في “ثورة” عام 2011.

قد يصدق بعض الخبراء التونسيين الذي يعتقدون أن بروز الظاهرة ورواجها واستعصاء استئصالها يعود إلى تراجع هيبة الدولة وأولوية حضورها في الفضاء العام. على هذا يستنتج المراقب أن التوافق على الحكم بالتراضي لا ينتج حكماً قوياً يأخذ مصلحة تونس أولاً بعين الإعتبار، بل يعطي الأولوية لمصالح منتجي السلطة ومموليهم. وربما أن الخروج من هذه الحلقة المفرغة يتطلب من الشاهد شجاعة واقداماً يستند به على شبكة من الفاعلين من داخل وخارج الوعاء الحزبي لكسر دائرة ارتباط البزنس بالسلطة.

على أن العارفين في تونس يدركون أن ما حصل في تونس عام 2011 ليس ثورة بالمعنى التاريخي، بل حالة اعتراض أعادت توزيعا جديداً للسلطة دون قطيعة مع النظم الاجتماعية التي تغذي تركيبة عالم الأعمال في البلاد. بمعنى آخر فإن شبكة الفساد قديمة عريقة وسابقة على ظاهرة الإرهاب، وأن تلك الشبكة تتمتع برشاقة تتيح لها بمرونة ربط أوصالها بأية سلطة تتشكل في البلاد. وعليه فإن تونس ما زالت تنتظر ثورة حقيقية لمكافحة تلك الظاهرة، ليس بالضرورة بأدوات الشارع التقليدية التي باتت تمقتها كل المنطقة، بل من خلال تصحيح ذاتي تواكبه ترسانة قوانين وتشريعات لا يجب أن تكون مستحيلة على الشاهد الشاب إذ ما أراد للتونسيين أن يشهدوا له بأن “صفقة” اختياره تتجاوز الشكل السطحي في ورشة تبديل متسرّع في الأسماء.

يسجل لتونس ان الحدث الذي أبعد حكومة وأتى بأخرى والذي احتل العناوين الأولى لصحافة العرب هو نتاج فعل محلي تونسي ما زال قادراً برشاقة على معالجة المآزق والاهتداء إلى مخارج الخلاص على طريق الوصول إلى النموذج التونسي الأمثل.