محمد بن عيسى يرى أننا، نحن العرب، شعوب ‘ترشدنا منظومة قيمية في أغلبها زراعية. ومن ثم نطالب بالتغيير ولا نريد التغيير. هذا التناقض الذي نعيشه باستمرار’.
أصيلة – يلتقي البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي عند مدينة طنجة في المغرب. لا تبعد مدينة أصيلة عن طنجة كثيراً، لكنّ بحورا ومحيطات أخرى ما برحت منذ أربعة عقود تلتقي في قلب المدينة الجارة لطنجة. لا سبب فوق العادة كان سيجعل من أصيلة مكاناً يكاد يكون كونيا، سوى أن واحداً من أبنائها حلم بها كذلك، فأرادها كذلك.
هاجر محمد بن عيسى من المدينة طالباً ثم موظفاً في المنظمات الدولية. غاب عن مسقط رأسه غياباً متقطعاً دام 23 عاماً إلى أن قرر العودة عام 1976، يقول بن عيسى “فوجئت وصعقت حين عدت. وجدت المدينة متآكلة في حالة سيئة للغاية من حيث النظافة ومصاريف المياه من حيث البنية التحتية. كان الماء الصالح للشرب متوفّراً لساعة واحدة في اليوم، ولجزء بسيط من المدينة. كان سكان المدينة يبلغ حوالي 19 ألفا. كان التيار الكهربائي ينقطع عن المدينة لمدة أسبوعين أو ثلاثة إلى غير ذلك”.
رعاية الملك
في حياة رجل أصيلة سيرة السفير الدبلوماسي كما سيرة الوزير في حكومات الرباط (وزيرا للثقافة 1985-1992، سفيراً للمغرب في الولايات المتحدة 1993-1999، ثم وزيراً للشؤون الخارجية 1999-2010)، لكن هاجسه الأول والأخير هو الثقافة، ذلك أنها أداة التغيير الوحيدة في حياة البشر.
التقيته قبل عدة سنوات، وراح محمد بن عيسى يروي مغامرته في أصيلة. قال لي وقتذاك “لم يكن لنا بقعة أرض في العالم العربي يمكن أن نلتقي فيها مع الآخر. وإذا ما أراد العرب أن يعُترف لهم بإنجاز ثقافي كانوا يذهبون إلى مهرجان المسرح في أفانيون في فرنسا ومهرجان السينما في كان في فرنسا أو كان هناك سبوليتو في إيطاليا”.
كان حلم الرجل الذي لم يكن عمدة المدينة آنذاك أن يجد مكاناً “يلتقي فيه العرب مع الآخرين، ويلتقي فيه الآخرون معنا، كما نحن، وليس كما يريدوننا أن نكون”.
مشروع جديد لإنسان جديد
يتذكّر بن عيسى أنه لم يكن في أصيلة لحلّ مشكلة النفايات، إلا عربة واحدة وحمار واحد، فيقول “فكرنا أن نحفّز الناس على نظافة مدينتهم، واكتشفت بعد مسح سريع أن الذين يرمون النفايات هم الأطفال، وفكّرنا أنه لبناء مشروع جديد لإنسان جديد، علينا أن نبدأ بالطفل. ومن ثم اقترحت في المجلس البلدي (كان عضوا فيه آنذاك) أن ندعو مجموعة من الفنانين التشكيليين إلى رسم أعمال على الجدران العارية في الشوراع (جداريات)، سيتفاجأ الناس ويسألون ما الذي يحصل؟”.
في أبريل 1978 تمت دعوة 11 فناناً، سكنوا في بيت بن عيسى وتقاسموا غرفه. لم تكن هناك ميزانية وإمكانات، وكان من ضمن الفنانين أسماء كبرى كفريد بلكاهية وميلود لبيض وغيرهم. وعمل في كل جدارية مع الفنانين مجموعة من عشرة إلى 15 طفلا. هكذا كانت بداية فكرة إقامة ملتقى أصيلة الثقافي، ليلتقي من خلاله العرب مع الآخرين.
يقول بن عيسى “لم يكن الأمر مقبولا، استدعيت من قبل الشرطة والمخابرات يريدون أن يعرفوا من ورائي، ذلك أنه بحكم عملي السابق في الأمم المتحدة كمدير مديرية الإعلام في منظمة الأغذية والزراعة في روما، وبما يوفّره هذا المنصب من علاقات مع الصحافة الدولية، فقد كتبت عنا النيويورك تايمز والغارديان والباييس واللوموند، فبدأ الناس يتساءلون من هو هذا الشخص ومن وراءه؟”.
في تجربة بن عيسى الميدانية تأملات الروّاد “نحن شعوب ترشدنا، بصفة عامة، منظومة قيمية في أغلبها زراعية، ومن ثم نطالب بالتغيير ولا نريد التغيير. هذا التناقض الذي نعيشه باستمرار”.
يروي أن سعيه تعرّض لمضايقات في البداية، “لكن من أنقذنا في الحقيقة هو العاهل المغربي الملك محمد السادس. جاء عفويا سنة 1986، وأتتني فكرة أن أطلب من والده المرحوم الملك الحسن الثاني أن يتولى الرئاسة الشرفية الأمير محمد، ووجدت موافقة. وفّرت الرئاسة الشرفية للملك محمد السادس حماية لنا”.
يقول بن عيسى إن أصيلة ساهمت في معرفة أهل المشرق للمغرب، ذلك أن المغرب كان يعرف المشرق وليس العكس. ويضيف أصيلة ساهمت في إقامة أرضية يتحدث فيها الإنسان عن نفسه بحرية، وهو أول شيء فاجأ كل النخب العربية التي قدمت إلى المدينة منذ أواخر سبعينات القرن العشرين.
يقول بن عيسى “كنت أقول إنّي لم أسمع بشاعر أو موسيقي أو روائي قام بانقلاب، فلماذا نخشى هؤلاء”. يروي أن الموسم كان يستقدم المثقفين الهاربين من بلادهم، وأن السفير المصري قد احتج في إحدى المرات بلطف على دعوة الشاعر عبدالمعطي حجازي الذي كان معارضاً يعيش في باريس.
كان ردّ بن عيسى هادئا حذقاً “إذا عبّر عن رأيه بحرية في المغرب فذلك أفضل من أن يتكلم في فرنسا، ثم لماذا لا تحتجون على فرنسا التي تستضيفه وتحتجون عليّ لأني أدعوه لإلقاء قصيدة في ندوة”.
يتذكر بن عيسى أسماء كبرى مرت في أصيلة؛ لطفي الخولي وسعدالدين إبراهيم وإميل حبيبي وأدونيس وكثير من الشعراء العرب والمثقفين الشيوعيين والقوميين والليبراليين، يأتون ويتحدّثون بكلّ حرية، وشهدت كتاباتهم عن أصيلة بذلك.
يقول بن عيسى “عندما كنت وزيرا للثقافة، كنت أقول الحرية هي سماء الإبداع. لا يمكن أن يكون هناك مناخ حواري تبادلي سليم بدون حرية”.
من يشارك في موسم أصيلة هذا العام يلحظ اعتياد المدينة على عيدها السنوي. أصبح الأمر من تقاليد المدينة وأهلها، مرّ على الأمر 38 عاماً أي عامان قبل الدورة الـ40. أسأله حين التقيته في أصيلة قبل أيام ما الذي تغيّر؟
حلم بن عيسى الذي بقي يرافقه سنوات طويلة، كان أن يجد مكانا “يلتقي فيه العرب مع الآخرين، ويلتقي فيه الآخرون معنا، كما نحن، وليس كما يريدوننا أن نكون”
تقاليد مختلفة
تغير كل شيء. تطوّرت البنية التحتية. قامت وانتشرت في المدينة مؤسسات الثقافة والفن، وباتت المدينة تحظى بمينائها ومياهها وتيارها الكهربائي، لكن “أهم ما تغيّر هو الإنسان ابن أصيلة (…) كبر الشباب 38 عاماً وباتوا يعملون معنا. يحترمون نوعية الحياة ومستواها ويريدون لمدينتهم أن تكون نظيفة. بات للمدينة حدائقها التي تحمل أسماء رواد حضروا إليها كالطيب الصالح ومحمود درويش وجابر الأنصاري وبلند الحيدري”.
لكن يتبادر إلى الذهن سؤال هنا؛ هل ساهم موسم أصيلة في الجدل الذي أدى إلى التغيير الديمقراطي؟ يسارع بن عيسى إلى جواب حازم “لا. هذا الفضل فيه يعود للملك محمد السادس″.
بإمكان محمد بن عيسى أن يفتخر بأن موسم أصيلة كان أول منتدى ثقافي في المملكة المغربية، وفيما تنتشر الآن المنتديات والمهرجانات (مهرجان فاس والرباط والدار البيضاء وتطوان.. إلخ)، ويصل عددها إلى خمسين مهرجانا.
ينبهني الرجل قائلا “كان اهتمامنا وما يزال منصبّاً على شيئين أساسين: أولا الفنون، والمدينة تحوّلت إلى دكاكين للشباب يكسبون رزقهم عن طريق الفن، وثانياً عالم الجنوب وخاصة أفريقيا. جاءنا كبار الكتاب والمفكرين الأفارقة، وكنت دائما أقول إن أمننا نحن في شمال أفريقيا، بل أمن العرب، هو في الجنوب، لا سيما إذا أخذنا بالاعتبار أن ثلثي العالم العربي الجغرافي والديمغرافي في أفريقيا”.
يكبرُ محمد بن عيسى 38 عاماً منذ أن أطلق موسم أصيلة الأول، تكبر المدينة أيضا 38 عاماً، فما الذي يريده للموسم والمدينة. يقول بن عيسى “العمر يكبر وجهدي مع العمر يقلّ بطبيعة الحال. أملي أن يواصل الجيل الذي جاء بعدي المسيرة ويطوّر الموسم. أملي أن يتحوّل الموسم إلى عدة فعاليات طوال السنة وألاّ يبقى محصورا فقط في الصيف”. لكن للرجل أمل آخر هو حسب تعبيره “أملي أن تبقى أصيلة في حدود أصيلة”.
قاوم بن عيسى وما زال طموحات أصحاب العقارات. هو يجهد والمجلس البلدي الذي يترأسه للاستمرار في احترام تصميم المدينة المعتمد رسميا من الدولة ومن البلدية “مهما كان الثمن”. ما زال يُمنّي النفس بأن يلتفت من استثمروا الكثير في كل مكان فيبنوا في المدينة فندقا يليق بها وبموسمها، فيردد لهم دون كلل “أصيلة هي ماربيا طنجة”.
ربيع العام 1978 شهد دعوة 11 فنانا، سكنوا في بيت بن عيسى وتقاسموا غرفه. لم تكن هناك ميزانية وإمكانات، وكان من ضمن الفنانين أسماء كبرى كفريد بلكاهية وميلود لبيض وغيرهم. وهكذا كانت بداية فكرة إقامة ملتقى أصيلة الثقافي