«أيها المسلمون ما التدبير، وأنا نفسى لا أعرف نفسى, فلا أنا مسيحى، ولا أنا يهودى، ولا أنا مجوسى، ولا أنا مسلم ولا أنا شرقى ولا أنا غربى ولا أنا برى ولا أنا بحرى، ولا أنا من التراب ولا أنا من الهواء ولا أنا من النار، ولا أنا من الهند ولا أنا من الصين ولا أنا من الكفار ولا أنا من أهل الجنة أو النار وإنما مكانى حيث لامكان وبرهانى حيث لا برهان! فلا هو الجسد ولا هو الروح، لأننى فى الحقيقة من روح الروح الحبيب».
هكذا عبر مولانا جلال الدين الرومى – 1207 – 1273 – القطب الصوفى الكبير .. التعبير عن كونية أفكاره وتسامحه اللامتناهى مع كل الأديان والأفكار فى ديوانه «شمس تبريز» حيث استطاع أن يخرج التصوف من إطار المصطلحات والأحوال والمقامات ومظاهره الخارجية وتحويله لحالة عالمية تلقى اهتماما عاماً وتحظى بالسمو الإنسانى بعد ما يقرب من مرور 800 عام على وفاة صاحبها.. اشغل الرومى ما انطفأ بريقه فى الغرب بسبب اجتياح الماديات وافتقادهم للروحانيات .. أيقظ الهمم فى الشرق وبدل ضجر الناس من صور التدين التقليدية والنمطية بأخرى روحية فى الآداب والفنون وعبر مسارات طويلة جدد تيار التصوف ببريق أشعاره التى بلغت ذروتها فى كتابه الشهير «المثنوى» فالتصوف إصلاح للقلب .. وتزكية للنفس من حشرجة الضغوط والأوجاع وشحن الوجدان ببريق الأمل وإضاءة مشكاة الروح بمقولات خلبت الألباب وأشعار ممهورة بختم حكمته .. اتبع الرومى طرقا مغايرة ومنعرجات قليلة .. لأرواح سئمت من محاربة القدر ويئست من الأوجاع .. ولا ندرى هل كان يدرك شاعرنا الكبير الذى اعتبره البعض فى مكانة جوته ودانتى .. وإن أشعاره ستسرى روح التصوف فى العالم أجمع فى القرن الحادى والعشرين.. هل يعود السبب لهمس نسائمه وقوة بيانه وشاعرية خياله وبراعته فى التصوير؟ ولماذا لونت أشعاره والموسيقى المصاحبة لها العالم بألوان جديدة بديعة كما لو كانت ألوان الشفق القطبى فى سحرها وحداثة اكتشافها وبهجتها وغناها؟
من هو جلال الدين الرومى الذى حول التصوف لموضة وظاهرة عالمية ووضعت لورا بوش كتابه فى صورتها وهى تحتفل بفوز زوجها بفترة رئاسية ثانية؟ ما الذى دفع مادونا لكى تغنى له «تعلم كيف تقول وداعًا؟ لماذا يجتاح «الناى» معظم المقطوعات الموسيقية .. وهو الذى اختصه بمقدمة يحكى فيها الناى كيف أصبح يعانى من آلام الفراق منذ قطع من الغابة والناس يبكون لحزنه .. «كل ما بعد عن أصله يطلب الوصال ويذكر حلاوة الأيام التى تجمعه بمحبوبه». الكل يبحث عن نغمة السكون يسعى لمقام الرضا .. عن شىء يرفع تناقض الأوضاع أو وتريات يهتز لها الفؤاد من خلال التزاوج بين الترانيم الشرقية والتصوف المسيحى والإسلامى والإيقاعات الغربية الإلكترونية .. ما السر فى هذا الفيض من الصفحات التى تطالعنا بمجرد أن يبدأ محرك البحث لجوجل فى إحصاء عدد الصفحات الخاصة بالرومى؟
أما (المولوية) التى تنتسب إليه .. فشعبيتها وفلسفتها تطوف فى القارات الخمس .. فمن خلال الإصغاء للموسيقى الصوفية التى تسمى (السماع) يقوم الراقص بالدوران حول نفسه وتتصاعد النفس وتشف الروح فى تلك الحلقات العامرة بالمحبة والصفاء .. وتعود النفس من معراجها أكثر نقاء.. المشكاة واحدة ونور المصباح واحد فى فلسفته التى تقوم على وحدة الوجود ووحدة الفكر وعالم أكثر محبة واتساقا وأقل اختلافا.. الآية الكريمة تقول «لا نفرق بين أحد من رسله» لا فرق بين عيسى وموسى .. كان دائم الكشف عن دلالات المعانى .. فى العشق الإلهى .. ويبدو أن ظروف حياته بها تماس مع أجوائنا الحاضرة .. وهو فى الرابعة من عمره سافر مع والده نتيجة لاحتياج المغول لديارهم واتجه إلى بغداد ومنها إلى مكة ثم دمشق وتتلمذ على يد والده فى بادئ الأمر وشيخه برهان الدين الترمذى ثم عاد إلى «قونية» فى تركيا أستاذا للفقه وسرعان ما التف حوله المريدون.. وفى سن الثامنة والثلاثين كان لقاؤه بشمس الدين تبريز صديقه ومعلمه الذى سيجذبه لبحور التصوف وسيرتبط الرجلان بصلة روحية عميقة ستدفع تلاميذ الرومى للغيرة من الضيف الوافد.. وسيقتل الرجل وستشير الأصابع إلى تلاميذه وفى مصادر أخرى إلى علاء ابن مولانا مدفوعا بما لا يقال من أسباب .. وستذكر بعض المصادر الأكثر جنوحا أن شمس تبريز شخصية وهمية اختلقها جلال الرومى لكى ينشد على لسانها أشعاره التى تحمل اسم صديقة «شمس تبريز» مولانا صاحب المثنوى الذى وصفه بأنه : «شفاء الصدور وجلاء الأحزان وكشاف القرآن» ستتجلى براعته فى الأسلوب والحوار وبالرغم من أنه يتحدث عن موضوعات من الطبيعة والنفس البشرية .. ترك الرومى أيضا آثارا نثرية ورباعيات وكتاب المجالس السبعة (محاضرات) وكتاب «فيه ما فيه» وأشعارا بالعربية لكنها أقل جودة من نظيرتها الفارسية كما أجمع معظم المتخصصين..
ومن أقواله البديعة التى تحظى بالصدارة فى الإعجاب على موقع «جودريدز» قوله : «لا تجزع من جرحك وإلا فكيف للنور أن يتسلل لباطنك؟ وما تبحث عنه يبحث عنك .. أيا كان ما يشعرك بالنقاء وهو الطريق الصحيح.
أما شمس تبريز فقد بلغت شهرته الآفاق فى السنوات الأخيرة عقب صدور رواية «قواعد العشق الأربعون» لالياف شافاك .. ومن مأثوراته اللافتة قوله : «الدنيا على أحوال شتى لا يمكن معها إصلاح الفاسد وإحلال الصالح محل الفاسد وقد يحدث العكس فإن الفاسد قد يتبدل بالأفسد» وقوله أيضا : «الكافر مشكور لأنه لا ينافق ويقولها صراحة أنا عدوكم .. المنافق أخطر من الكافر».
ما أشبه اليوم بالبارحة عاصر الرومى (المغول) والعالم اليوم يعانى من التطرف والوحشية المتمثلة فى داعش .. ومن عولمة الإرهاب وعولمة التصوف .. أعلن الكاتب فرانزاوى الحائز على الأوسكار نيته لعمل فيلم عن جلال الرومى بطولة ليوناردو دى كابريو وروبرت داونى الذى سيقوم بدور معلمه شمس تبريز .. لا شىء تنتجه هوليوود يخص المنطقة العربية أو العالم الإسلامى ويأتى اعتباطا أو سعيا للمكسب أو الدعاية فقط أو إلقاء الضوء على مزايا شخصية روحية لها مثل هذه الإشعاعات الصوفية فما هو السبب يا ترى؟
قال فرانزونى: الرومى مثل شكسبير بشخصيته وقيمته وتأثيره مازال مستمرا منذ القرن الثالث عشر إضافة إلى أن أشعاره تحقق أعلى المبيعات فى أمريكا.. التحديات التى تواجه الفيلم ترتبط بالقدرة على بناء صورة ذاتية مقنعة للرومى من خلال هذا الزخم فى الكتب والدراسات التى كتبت عن الرجل وحياته وكانت موضعاً للخلاف بين المؤرخين لذلك سنبحث فى تاريخ الشخصية عما هو مفقود عن الإنسان الذى أصبح وليا لأننا لن نكتب عن قديس!!
إذن فالنية مبيتة لتقديم حياة الرومى الشخصية من وجهة نظر هوليوود .. ومن قرأ عن حياته جيدا وبالتفصيل يمكنه استنتاج ما سيكون.
فالولايات المتحدة التى يليق بها اسم كتاب ابن الجوزى «تلبيس إبليس» لا تتورع عن إعادة بناء الهويات والثقافات والعبث بالقيم الراسخة فى المجتمعات .. منذ أكثر من عقد ذكر د. عبد الوهاب المسيرى أن لجنة الحريات التابعة للكونجرس أوصت بتشجيع الحركات الصوفية للرومى وابن عربى لأن الزهد فى الدنيا يتبعه الزهد فى السياسة وشئونها.. وتم تعزيز هذه التوصية فيما بعد من خلال الدراسة التى قامت بها جامعة ييل أثبتت أن ثلثى المناطق التى وصلها الإسلام فى أفريقيا وآسيا كان من خلال المتصوفين .. الموضوع أكبر من فيلم دى كابريو وأغانى دينا الوديدى وموسيقى بشار مارسيل خليفة.. «لا تجزع إن ذابت وانطفأت كل شموع العالم نحن الشرارة التى تبدأ النار» .. «لا تسر مع التيار كن أنت التيار» .. «ما الجسد إلا رداء خارجى للروح الخالدة .. فلا تطلب الرداء وخاطب المرتدى» حين يسرى هذا الخدر اللامع ممهورا بختم متصوف كبير كالرومى فى كل البلاد وبين كل العباد وحتى فى عروض الأزياء لا يمكن أن نأتنس لهذه الدروشة العالمية والحب الكونى ونتجادل كما حدث الأسبوع الماضى على تويتر على شخصية دى كابريو ومدى ملاءمتها للدور من عدمه ونتناسى الأسلحة الذرية والذكية واستخدام الصوفية إذا تطلب الأمر.
يروى مولانا قصته مع تلميذه الذى أمره أن يحضر زجاجة من إحدى الحجرات فعاد إليه التلميذ ليسأله: أى الزجاجتين يحضر؟ لأنه وجد زجاجتين وفطن مولانا إلى أن التلميذ أحول .. فقال له : هى زجاجة واحدة .. وجادله التلميذ .. فطلب منه الرومى أن يكسر زجاجة ويحضر الأخرى وبعد أن كسرها التلميذ اكتشف أنها زجاجة واحدة وأنه كان واهما وأن أستاذه محقا .. وكانت الحكمة والدرس الذى لا ينسى «لا توجد حقيقتين» هى حقيقة واحدة وامريكا واحدة لها سياسة لا تتغير!.
نقلا عن:ایلاف