إنه الفرق بين مواجهة عقيدة الخميني وعقيدة البغدادي.
سال مداد كثير في تحليل تعرّض المملكة العربية السعودية لسلسلة تفجيرات طالت جدة والقطيف والمدينة المنورة. البعض ذهب لتخيّل رابط ما بين عمر العتيبي الذي فجر نفسه بالقرب من الحرم النبوي منذ أيام وجهيمان العتيبي الذي اقتحم ورجاله الحرم المكي عام 1979.
وللحدث في بعده السعودي ما يفتح شهية المراقبين لشؤون المملكة في المنطقة والعالم علّهم يقتفون أثرا أو يكشفون ما تخفيه أبواب الحكم منذ تبوء الملك سلمان بن عبدالعزيز عرش البلاد. وللحدث في السعودية أصداء مختلفة منذ أن أصبحت الرياض تقود تحالفاً عسكريا في اليمن وترعى سياسة إقليمية تجابه النفوذ الإيراني في المنطقة في كافة الميادين التي تنشط طهران داخلها.
لم يبتعد بعض المراقبين عن وضع الهجمات الإرهابية الأخيرة في إطار الصراع المضمر والمعلن بين الرياض وطهران. وربما في ذلك تعجّل يستندُ على فرضيات واحتمالات، ليس لأن إيران بعيدة عما من شأنه إرباك الموقف السعودي في الداخل والخارج، بل لأن منطق الأمور يدفع إلى الإطلالة على الحدث من بوابة الحرب التي تخاض ضد معاقل داعش في سوريا والعراق، واعتبار التفصيل السعودي جزءاً من كلّ في المشهد الواسع الذي شهد ضربات لتنظيم البغدادي في تركيا وبنغلادش والأردن والكويت (تفكيك خلية) والعراق ولبنان، ناهيك عن تلك في فرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة.
ما جرى في السعودية ليس علّة تستحق تسليط المجهر على الحالة السعودية فقط، بل يستدرج توسيع الرؤى لتطال أزمة تنظيم داعش الحالية وتطوّر حراكه من طوّر الجغرافيا بمعناها الأفقي إلى طوّر الإرهاب العشوائي بالنسخة التي اشتهر بها تنظيم القاعدة.
يتهيأ التنظيم لاحتمال خسارته المعاقل واحدا بعد آخر. خسر الفلوجة والأنظار تتوجه إلى الموصل في العراق، وهو بصدد الدفاع عن منبج قبل المعركة الكبرى في الرقّة في سوريا. يدرك التنظيم تقادم استراتيحية إقامة “الدولة” على الأرض. يدعو أبو محمد العدناني الناطق بإسمه في أوائل رمضان، إلى مهاجمة الكفار والمرتدين، عسكريين ومدنيين، أينما كانوا، ويسأل الولايات المتحدة “هل سنُهزم وتنتصرين إذا أخذتِ الموصل أو سرت أو الرقة أو جميع المدن وعُدنا كما كنّا أول حال؟ كلاّ! إنّ الهزيمة فُقدان الإرادة والرّغبة في القتال”، ليضيف لاحقاً “إننا لا نجاهد لحماية أرض، ولا لتحرير أو السيطرة على أرض”. فسرّت تصريحات الرجل بأنها تمهيد للانحسار.
لن نتوارى خلف أصبعنا في تفسير الانفلاش السريع لقوة داعش في المنطقة منذ السقوط العجيب لمدينة الموصل. يتأسس التنظيم على عقيدة جهادية تنهل مواردها من التراث والدين وتفاسيره، لكن انتشار نفوذه يعود إلى عوامل أخرى سهّلت امتداده وعززت من صلابته حتى بدا كأنه مارد خرج من قمقمه.
من سجون دمشق وبغداد خرجت قيادات جهادية بالآلاف بأساليب ومسوّغات متعددة. وسواء كان السبب عفواً دمشقياً ملتبساً أو هروباً مشبوهاً من معتقلات العراق، فإن الهدف بالنهاية كان يتوسل إنشاء تلك الحالة الجهادية السنّية التي تبرر لسلطة نوري المالكي حكم الشيعة في العراق، كما توفّر لحكم بشار الأسد في دمشق عدواً مثاليا بالامكان تخويف الأنصار به وتبرير مكافحته أمام العواصم الدولية.
لم تكن العواصم الإقليمية المعادية للنظام السوري والعراقي بعيدة عن الاستثمار في هذا المخلوق الداعشي، ذلك أن الغاية تبرر تلك الوسيلة. وربما تعدد أجندات تلك العواصم أتاح هامشاً عريضاً لداعش ينمو داخله على تناقض أهل المنطقة وتباين أهدافهم. ولم تكن العواصم الدولية بعيدة عن تغذية ذلك المخلوق وتسهيل عبور “المجاهدين” نحو فضاءاته. نشر الإعلام الدولي حكايات عن غضّ طرف مقصود من موسكو وعواصم أوروبية أخرى. كان ذلك يتمّ لتسهيل “جهاد” جهادييها لعلّها من جهة تتخلّص من كتل تطرّف تنمو داخل مدنها، ولعلّها من جهة ثانية تتمكن من اختراق صفوف التنظيم ونشر عيونها داخله.
ولأن ظاهرة داعش صاعقة مفاجئة غامضة، تبارى الباحثون وخبراء الإرهاب ومراقبو “الجماعات” في تسطير المقالات وإصدار الكتب في سعيّ ميؤوس لفك أسرار أكثر الحالات الإرهابية قوة وغموضاً في التاريخ الحديث. ولأن الخطر بات كاسحاً عابراً للحدود أضحى العالم في تناقضاته مجمعاً على التخلّص نهائيا ممن عبث بأصول “لعبة الأمم”.
عمليات داعش الإرهابية هي اشتباك في إطار رد الفعل على فعل الحرب التي تُشنّ ضده. ليس بالضرورة أن تكون تلك الضربات دليل ضعف، بل دليل تأقلم مع ظروف تغيّرت تحتم الانخراط في خيارات إرهابية بديلة. لكن الثابت أن البغدادي وصحبه يشعرون بأن “الدولة” لن تتمدد وأن خطّٓ بيانها الصاعد إلى انحدار.
يشنّ داعش حربه الإرهابية الجديدة داخل بلدان سنّية. وحري التذكير أن هدف داعش العقائدي المركزي هو إقامة دولته في عالم السنّة بعد تطهيره من الكافرين والمرتدين، وأنه في غزوه لمدن العراق وسوريا استوطن داخل مناطق السنّة ولم يشنّ أي حرب حقيقية ضد الشيعة والعلويين، لا بل تقاطع في الحالة السورية مع النظام في ضرب المعارضة وتحوّل عن التوجه إلى بغداد وراح يهاجم المناطق الكردية في الحالة العراقية. وما خطابه ضد “الصليبيين والصفويين والرافضة”، إلا من قبيل التحريض والتجييش المستخدم لشدّ عصب مجاهديه واستدراج آخرين.
وما هجماته في العالم الغربي إلا أعراض جانبية خارج مركز الفعل الحقيقي.
لم يستهدف داعش إيران (على الرغم الرواية الركيكة الأخيرة لخلية تحدثت عنها طهران)، وهو لم يحد عن استراتيحية القاعدة في مراعاة المصالح الإيرانية حفاظاً على خطوط الإمداد، وهو أمر كشف عنه العدناني في اتهامه الظواهري أنه طلب منهم قبل انشقاقه (العدناني) عن القاعدة (النصرة) عدم مهاجمة أهداف إيرانية، لا سيما وأن إيران أوت قيادات للقاعدة واستخدمتهم في إطار مناكفتها للقوات الأميركية في العراق (نفس الأمر ينطبق على علاقة دمشق بالجهاديين).
داعش هو نتاج علّة خبيثة في المنطقة وفّرت بيئة حاضنة استفادت من “مظلومية السنّة”، وهو أمر ينسحب على الحراك الإيراني في المنطقة المستند على “مظلومية الشيعة”. من تلك المظلوميات الحقيقية أو المفترضة يستفيد منطق الفوضى والعبث. لكن فكر داعش يستلهم أيضاً تربية وثقافة وقراءة ظلامية للدين تروج في منطقتنا.
لم يوار الملك السعودي كلماته في الدعوة إلى “الضرب بيد من حديد على كل من يستهدف عقول وأفكار وتوجهات شبابنا الغالي”، داعياً المجتمع “أن يدرك أنه شريك مع الدولة في جهودها وسياساتها لمحاربة هذا الفكر الضال”.
في ذلك اعتراف بالمرض وأعراضه، ما يستوجب علاجات عاجلة لم يعد من الحكمة تأجيلها. وبالمحصلة، فإن الفارق ما بين حدثيّ العتيبي عام 1979 والعتيبي عام 2016، هو أن السعودية التي تمسّكت إثر الحدث الأول بقراءة دينية سياسية تواجه بها عقيدة الخميني وصحبه في إيران، ذاهبة، وقبل الحدث الأخير، إلى قراءة دينية وسياسية جديدة، وفق تلميحات ملك البلاد، تواجه بها عقيدة التكفير عند البغدادي وصحبه، كما عند من يوفّر له وعاء فقهياً وثقافيا وإجتماعياً يشرّع جرائمه.
نقلا عن :ميدل ايست أونلاين