حين يصدر في فرنسا ما يتعرض للمغرب يبدو ذلك هامشيا عرضيا إذا ما قورن بما تشهده الساحة المغربية المحلية من جدل.
كشف عرض القناة الفرنسية الثالثة لفيلم وثائقي يتناول الملك محمد السادس عن أن المراقب الفرنسي مازال يتعامل مع دولة مثل المغرب بعقلية قديمة، ولم ينتبه في المقابل إلى أن العقلية المغربية، السياسية والمجتمعية، تغيرت.
كان لافتا تراجع ردّ الفعل المغربي على ما يصدر في فرنسا مما يطال المغرب بملكه وحكومته وشخوصه. لم تعد “الترهات” الفرنسية تستفزّ الداخل المغربي، حتى أن صحافة البلد قاربت مسألة عرض القناة الفرنسية الثالثة لفيلم وثائقي يتناول الملك محمد السادس بصفته خبرا فرنسيا “تلفزيونيا” لا يلفت أنظار المغاربة كما كان الأمر سابقا.
عاملان تغيّرا في السنوات الأخيرة قد يعبّران عن تطوّر في عقلية الحاكم والمحكوم في المغرب مقابل جماد تلك العقلية في الجانب الفرنسي. جرى في الضفة المغربية للمتوسط تبدّل جذري منذ أن أدلت رياح الربيع العربي بدلوها؛ ذهب المغاربة ملكا وأحزابا ونخبا وشعبا صوب إصلاح دستوري جذري حمل ماء إلى طاحونة المطالبين بالحداثة لتوسيع قاعدة المشاركة في الدولة ولترشيق ديناميات التناوب على السلطة.
لا شك أن المراقبين الفرنسيين لشؤون المغرب في الضفة الأوروبية المقابلة قد تابعوا بشغف ما تحمله أخبار الرباط. سُحب الجدل من الميادين وانتقل يخترق المؤسسات. نشطت في دوائر السلطة كما دوائر المعارضة ورش لفهم واستيعاب التحوّلات التي ضجّ بها الشارع المغربي والتي صهرها عاهل البلاد داخل نصّ دستوري نقل المملكة من حقبة إلى أخرى.
تابعت باريس ما نجم عن الاستفتاء على الدستور وما خرجت به صناديق الاقتراع مُذاك. نقلت تقارير سفارتها أن عدد المظاهرات السنوية في البلد يصل إلى 20 ألفا (تقريبا كل عام)، لكنها استنتجت أن ذلك يعني أن الحاكم والمحكوم باتا متعوّدان على الأمر بصفته ركنا من أركان عيش المغاربة اليومي وجزءا من ثقافتهم. بات الجدل المغربي محليّ الهوية، تنقله المنابر الإعلامية بشفافية كاملة لا تحتاج استيرادا للمعلومة من صحف وشاشات باريس. لم يدّعِ المغاربة كمالا، فلسان حال المعارضين ينشط دون كلل ولا تردد ولا تحفظ، لا يتجنب محرما ولا يلتف على مقدس. وفي ذلك التمرين نقد صريح يطال كل مؤسسات الحكم من تلك الملكية إلى تلك التي في أصغر مؤسسة جهوية مرورا بالحكومة ووزاراتها. وحين يصدر في فرنسا ما يتعرض للمغرب يبدو ذلك هامشيا عرضيا إذا ما قورن بما تشهده الساحة المغربية المحلية من جدل يصمّ ضجيجه الآذان.
تغير المغرب، لم تتغير فرنسا
مازالت فرنسا تعتبر نفسها قيمة فوقية تطل على “حالات” العالم الثالث من بروج متفوّقة. تقارب باريس، نخبا وصحافة وأصحاب قرار، الشأن المغربي من موقع المستعمر القديم الذي مازال يملك دالة على المحميات الفرنسية القديمة. تتعامل فرنسا مع المغرب بأدوات فرنسية مصنوعة محليا وأيضا بمقاييس فرنسية أضحت، حتى في عرف الفرنسيين، بالية متقادمة.
وسواء خرج قضاؤها بفتاوى تطال شخصيات حاكمة (كتلك التي ضد رئيس جهاز الاستخبارات المغربية عبداللطيف حموشي عام 2014)، أو خرجت صحافتها بما من شأنه النيل من سمعة العاهل المغربي وأداء حكومته، فذلك رجس بات، ويا للمفارقة، لأغراض الاستهلاك الفرنسي الداخلي، الذي لا يحرك ريحا في هواء المغاربة.
لم يتحرك المغاربة كثيرا للردّ على الفيلم الوثائقي التلفزيوني في القناة الفرنسية. وجاء الجدل هذه المرة فرنسيا – فرنسيا على ما كان سابقا يفجر جدلا فرنسيا – مغربيا. بدا الأمر تصفية حسابات فرنسية تدين سلوك الابتزاز وفضائحه الذي دمّر سمعة الصحافة الفرنسية في السنوات الأخيرة.
“الترهات” الفرنسية لم تعد تستفز الداخل المغربي
من انتظر بثّ الفيلم كان يروم اكتشاف ما يحمله مضمون الشريط، ذلك أن الرباط كانت طردت مخرجه جان لوي بيريز ومصوّره بسبب عدم حصوله على التراخيص الضرورية للتصوير داخل البلاد. ومن انتظر بثّ الفيلم اكتشف رتابة لا تحمل سبقا، تتأسس على مضمون مكرر يكاد يبعث على التثاؤب. جاءت شهادات المتدخلين في الفيلم من قِبل شخصيات مغربية تعيش خارج المملكة تلوك مسائل الحريات وحقوق الإنسان وقضايا الفساد. وهراء الأمر أن نقاش تلك الأمور والتصدي لها يدور داخل المغرب بجدارة وفعالية لا تنتظر مواهب فرنسية، حتى أن أحد الأصدقاء المغاربة أسرّ إليّ “كم باتوا خلفنا هؤلاء الفرنسيون”.
لا أحد يلتفت لمنتوجات باريس
الردّ على الوثائقي الفرنسي جاء من قبل الصحافة الفرنسية نفسها. وإذا ما تمّ تفحّص مضامين ما كتب في منابر باريس، فإن المراقب قد يستشرف أن ذلك الفيلم هو آخر وثائقي يتناول ملكا مغربيا، ليس لأن المضمون فارغ ووهن وركيك، بل لأن مقاصد الفيلم، التي لم تعد تهم المغاربة، لم تعد تهم الفرنسيين أيضا، فقد أصابهم سأم مما باتوا يعتبرونه “بزنسْ”. هو “بزنس” منذ أن أفاق الفرنسيون صيف العام الماضي على خبر توقيف القضاء الفرنسي في باريس للصحافيين الفرنسيين إيريك لوران وكاترين غراسييت (وهي مستشارة فيلم بيريز). والتهمة هي محاولة ابتزاز ملك المغرب مليونَيْ يورو مقابل سكوتهما. كانت الدلائل المصوّرة كفيلة بالإيقاع برؤوس شهيرة في عالم الصحافة الفرنسية. لم يفهم الفرنسيون لماذا أصدر الصحافي الفرنسي جيل بيرو كتابه الشهير “صديقنا الملك” عام 1990. أثار الأمر حينها أزمة دبلوماسية كبرى بين الرباط وباريس. وكان الكتاب يتناول حياة الملك الراحل الحسن الثاني منتقدا سلوك الحكم والحاكم في تلك الحقبة. تناقلت المعارضة المغربية الكتاب واستشهدت بمضامينه نصرة لحججها. لم يعد الأمر كذلك في المغرب؛ لا أحد يلتفت لمنتوجات باريس في هذا الصدد، لا سيما وأن شبهة “البزنس” باتت تلتصق بأي عمل، وإن كان بعيدا أو منزها عن تلك الشبهة.
يستنتج جيل بيرو نفسه هذا الأمر منذ فضيحة غراسييت – لوران. لم يعد يهمه ما إذا كان في أمر الثنائي ابتزاز أم لا، يقول “لقد تهاوت قيمة الصحافة الفرنسية”، ثم يضيف “لقد فقدنا مصداقيتنا.. والأمر سيتطلب بعض الوقت”. وما يصل إليه بيرو هو غيض من فيض الجدل حول موقع الصحافة في فرنسا وتراجع أدائها وماركنتيلية وظيفتها في السنوات الأخيرة.
تغير المغرب. هل تتغير فرنسا؟