شر البلية ما يضحك. رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي حذر يوم الجمعة الماضي مجموعة مقتدى الصدر من «التصرفات المتهورة والأعمال الإجرامية» بعد مهاجمتها مقرات حزب «الدعوة الإسلامية» الذي ينتمي إليه العبادي وسلفه نوري المالكي. المضحك في الأمر قول العبادي: «في الوقت الذي تتقدم فيه قواتنا الأمنية في الفلوجة، نحن نقطف الانتصارات المتتالية».
لم يعتذر العبادي عن الجرائم التي اقترفها مقاتلو «الحشد الشعبي» بحق الذين لجأوا إليهم من أبناء الفلوجة. اكتفى يوم الاثنين الماضي بالاعتراف بأنه «حصلت تجاوزات»، (قُتل 49 شخصًا من النازحين وفُقد 643 آخرون). تزامن اعترافه بتصريحات حركة «عصائب أهل الحق» من «الحشد الشعبي» في اليوم نفسه بأن كل ما حدث «خطأ أو خطأين» وأن تضخيمه هو لصرف الأنظار عن «الانتصار الكبير الذي يتحقق» و«في حال حدوث خطأ ما خلال العمليات العسكرية علينا اللجوء إلى القضاء».. لا تعليق.
الأمور ستزداد صعوبة في العراق وسوريا. عام 2012 بعد مغادرة الأميركيين العراق كان التخوف بأن الأوضاع ستتعقد أكثر، وما يجري الآن غير مفاجئ. ركز العالم على سوريا في السنوات الأخيرة أكثر من العراق، ربما بسبب سفك الدماء، ولأن رئيسًا يصر مع حلفائه (إيران وروسيا وحزب الله) على إطالة الحرب. أيضًا بسبب الأخطاء الأميركية. في نهاية أغسطس (آب) 2014، كان الرئيس باراك أوباما اعتبر أن استعمال الأسلحة الكيماوية هو خط أحمر لن يسمح بتجاوزه. لكن لأسباب صارت معروفة، تراجع أوباما فاستعاد نظام الأسد «حيويته الدموية».
حدث خطأ مماثل في العراق، المكان الذي استثمرت فيه أميركا كثيرًا من الوقت والدماء، لكنها وضعته في الذاكرة الخلفية في السنتين الماضيتين، ربما لأنها سلمته لإيران. عام 2010 فاز إياد علاوي في الانتخابات بفارق مقعد. لكن نوري المالكي شكل الحكومة بعدما وافقت أميركا إثر تهديدات إيرانية!
من «إنجازات» المالكي اضطهاده للسنّة، وهذا أشعل النيران السنّية وأعطى مبررًا لبروز تنظيم داعش. وما نراه اليوم نتيجة لتلك السياسة المقيتة هو أن العراق سيكون مكانًا أسود لزمن طويل.
المشكلة في الانسحاب العسكري الأميركي أنه رافقه انسحاب سياسي، فسمح ذلك بتشديد القبضة الإيرانية، التي تحرك الأمور، وتفرض على العبادي القول، إن ما يجري من تدخل إيراني سافر في الشؤون العراقية، السياسية والعسكرية والاجتماعية إنما «هو بطلب من حكومته».
مع حماسته لإدارة ظهره عبر سياسة خارجية غير منطقية في العراق وسوريا وبقية المنطقة، شعر أوباما بأن من مصلحة إدارته ترك إيران تملأ الفراغ في العراق. لم تهمه النتائج الاستراتيجية أو المسؤولية الأخلاقية فكانت النتيجة كما نرى: عراقًا أقل استقرارًا، مريضًا مزمنًا بالتفرقة المذهبية، واستغلال الطائفية لأهداف سياسية من قبل إيران وأطراف أخرى، وهذا ما انعكس ضررًا قاتلاً على العراقيين لا سيما من هم دون الثلاثين من العمر.
لو أن أميركا أبقت عام 2011 بعض القوات، لمنع ذلك قوى خارجية وداخلية وحتى «داعش» من البروز والتخريب. يقول المدافعون عن أوباما، إن قرار الانسحاب اتخذه الرئيس السابق جورج دبليو بوش، واكتفى أوباما بتنفيذه. غريب أمر الرئيس الأميركي، كان اتخذ قرارًا بإغلاق معتقل غوانتانامو، وحكم فترتين رئاسيتين وحتى الآن لم يستطع تطبيق قرار اتخذته إدارته!
ليست مشكلة العراق أن أغلبية القيادة شيعية، بل المشكلة أن هذا الواقع دفع إيران لتفرض نفوذها كدولة شيعية على عراق فيه مزيج من العرب والكرد. في الواقع هناك فرق بين النفوذ والتدخل. أميركا نفسها بدأت تقلق من أساليب هذا التدخل خصوصًا لجهة دور عملاء إيران في معارك الفلوجة مثل أبو مهدي المهندس نائب رئيس ميليشيات «الحشد الشعبي». فالمهندس رجل قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» التابع لـ«الحرس الثوري» الإيراني. والمشكلة أن الولايات المتحدة وحتى الأمم المتحدة تحتاجانه عندما تريدان إقناع «الحشد الشعبي» بأمر ما، كتسليم طائرات «أباتشي» للحكومة العراقية، أو مرور قوافل الأمم المتحدة عبر حواجز الحشد، كما فعلتا مع «طالبان» في أفغانستان.
في حديث أجريته قبل مدة مع السفير الأميركي ريان كروكر قال لي إن «الحرب العراقية – الإيرانية لم تنتهِ عند سليماني. هو الآن يريد إنهاءها وهو فوق الأراضي العراقية».
أما المهندس المولود في البصرة، فقد نزحت أسرته (إبراهيمي) من مدينة كرمان جنوب شرقي إيران إلى البصرة إبان حكم الشاه، وحصل والده جعفر محمد علي على الجنسية العراقية في الخمسينات بمساعدة الطائفة «الشيخية» الشيعية التي كانت مقربة من الملكية العراقية. واليوم يعود المهندس إلى أصله وينفذ خطط إيران في العراق البلد العربي. فإيران تريد تقرير مستقبل العراق وسوريا، وتعتقد بأنها ترهن مستقبل لبنان أيضًا..
المشكلات في العراق هي نفسها في سوريا. في البلدين الانهيارات وصلت إلى الحافات: هناك «داعش»، وهناك إيران وهناك دول أخرى، وهناك تداعيات الأزمة السورية على لبنان، والأردن وتركيا والأكراد والخليج.
لقد وصل الولاء لـ«داعش» حتى أورلاندو. في الحقيقة ليس لقتل الأجانب فقط، إنما المحرك الأساسي لدى الكثيرين هو حماية السنّة. وإذا لم تتم معالجة ذلك فلن يكون من مجال أمام مزيد من الرياء لإعادة لحمة الموزاييك من المجموعات الإثنية أو الدينية إن كان في العراق أو في سوريا. الدولتان تتسارعان في الانحدار إلى الهاوية. وما لم تتم مساعدة الضحايا، وهم أكثرية سنّية، لن ننتهي من «داعش». هناك سنّة فضلوا الموت على أيدي «داعش» في الفلوجة بدل أن يوفروا فرحة الانتقام منهم لـ«الحشد الشعبي».
إذا أرادت أميركا أن تبقى قوة عالمية فهناك مسؤولية أخلاقية أمامها. وهي الوحيدة القادرة على أن تكون كذلك. لديها واجبات، ثم إنها مسؤولة عن عدم الاستقرار المنتشر في المنطقة، من العراق، وليبيا وحتى سوريا. كل ما تحتاجه واشنطن هو مراجعة تاريخها القريب، عندما حرر جورج بوش الأب الكويت من احتلال العراق، لم يطح بصدام حسين، لأنه سأل: من سيحل محله؟
لذلك هناك حاجة لإيجاد فرق سنّية لموازنة الفرق الشيعية، إنما فرق شيعية معتدلة وغير متطرفة. أميركا قوّت الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، وأضعفت الدول السنّية. تسببت بفراغ سنّي ملأه «داعش»، لأنه كان لا بد من قوة سنية تواجه الميليشيات الشيعية التي شكلتها إيران وتدعمها.
يقول العسكريون الأميركيون إنهم بحاجة إلى نحو 8 آلاف جندي للقضاء على «داعش»، وكانت السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة أعلنتا عن استعدادهما للمشاركة بقوات. لو تحقق ذلك لما كان أوباما قال في مجلة «أتلانتيك» «إنهم يريدون رحلة مجانية»!
لا بد لأميركا من أن تعود إلى المنطقة لإعادة الاستقرار، ولا بد أن تشرك معها قيادات من المنطقة؛ إذ لا يمكن أن تكون فقط قوات إقليمية، فما من دولة في المنطقة لديها جيش قوي إلى درجة فائقة. «داعش» في العراق وسوريا واحد. لن تنتهي الحرب في سوريا بحل سياسي، هناك ثورة مشتعلة والنظام لا يقاتل تكفيريين كما يدعي، بل يقاتل شعبه. ينتظر أيضًا انهيار لبنان والأردن وحتى تركيا بسبب ضغط اللاجئين السوريين. تحدث أخيرًا بشار الأسد مطولاً مفتتحًا مجلس ما تبقى من «الشعب السوري»، لم يأتِ على ذكر اللاجئين السوريين، حذفهم من تاريخ سوريا وجغرافيتها.
لقد ورث أوباما شرق أوسط معقدًا، وهو سيورث خلفه شرق أوسط منهارًا. أخطأ عندما صدق أن المنطقة قسمان؛ إيران وتكفيريون. لإيران استراتيجية بعيدة أبرزها إخراج أميركا من المنطقة وعبر «حزب الله» محاربة إسرائيل والسيطرة على كل المنطقة. تقول أميركا إن روسيا قوة في طريقها إلى الانهيار. لكن في هذه الحالة تعرف هذه القوة كيف تكون عامل عرقلة.
مع هذا المزيج من المآسي لن تتحسن المنطقة لأجيال متعددة. قالت مرة مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة: «لماذا لدينا هذه الآلة العسكرية الضخمة ونصرف عليها الأموال إذا لم نكن ننوي استعمالها»؟ وقال وزير الدفاع السابق روبرت غيتس، إن نصيحته للرئيس أوباما كانت: «إذا امتشط مسدسًا وحمله ووجهه، عليه أن يضغط على الزناد». ومع ذلك لا تزال المنطقة تتطلع إلى أميركا لأنه لا يمكن الاستغناء عنها، إنما تحتاج هذه إلى قيادة حاسمة.
نقلا عن ایلاف