يبدو أن عام 2016 لن ينتهي دون تحوّل منظمة الأمم المتحدة من كيان معني بتحقيق الأمن والسلم الدوليين إلى كيان يخترق سيادات دولها الأعضاء عبر التدخل في شئونها الداخلية بصورة فجّة. فالمنظمة التي تأسست في 24 أكتوبر 1945 في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية لأغراض محددة مدونة في ميثاقها، صارت في السنوات الأخيرة لا شاغل لها سوى الاهتمام بحقوق الإنسان وفقا لما يمليه عليها بعض المنظمات غير الحكومية، ولاسيما تلك الخاضعة لأجندات أمريكية وغربية. ومن هنا تسببت المنظمة العتيدة في مشاكل لنفسها مع طائفة من أعضائها. ومثل هذه المشاكل كان من الممكن تفاديها لولا شخصية الأمين العام الحالي «بان كي مون» الضعيفة الذي يبدو أنها رهينة لمعلومات مغلوطة تُنقل إليها من داخل دهاليز منظمته المسكونة بألف علة وخلل.
في الأشهر الأخيرة من العام الجاري تصادم «بان كي مون» مع 3 أقطار لأنه تجاوز لازمة «القلق» التي صارت مرادفة لاسمه إلى ما هو أبعد من ذلك مثل التنديد والاستنكار وانتقاد أحكام صدرت من قبل السلطات القضائية ضد مدانين بالقتل والإرهاب، ناهيك عن الانحياز مع طرف ضد طرف آخر في قضية إقليمية، الأمر الذي لم تعرفه الأمم المتحدة في ظل أسلاف أمينها العام الحالي. ففي مارس الماضي تسبب الأخير في إثارة المغرب الشقيق حينما أطلق في الجزائر تصريحًا غير دبلوماسي دعا فيه إلى إيجاد حل لقضية الصحراء الغربية بناءً على حق تقرير المصير، واصفًا علاقة المغرب بالصحراء الغربية بالاحتلال.
وفي أكتوبر 2015 تدخل بان كي مون بصلافة في الشأن الداخلي للمملكة العربية السعودية، حينما دعا، عبر المتحدث الرسمي باسمه، إلى وقف إعدام رجل الدين الشيعي الإرهابي نمر النمر الذي كان قد صدر عليه ذلك الحكم من قبل السلطات القضائية في محاكمة استوفت جميع الإجراءات القانونية المتبعة، بل صدر عليه الحكم بعد اعتراف الجاني نفسه بكل التهم المنسوبة إليه، ورفضه التراجع عن غيه وعدوانيته وتطاوله وأفكاره الإرهابية. وهكذا تحول قائد أكبر منظمة عالمية إلى محام للشيطان. ولعل مما زاد من استياء المملكة، وهي من أوائل الدول المؤسسة للأمم المتحدة، أن بيان الأمم المتحدة حول هذا الشأن المحلي البحت وصف يوم الحكم ضد النمر بأنه «يوم دموي»، معتبرًا محاكمته بأنها «تصفية حسابات سياسية غير عادلة (هكذا).
وعلى المنوال نفسه، أعرب الأمين العام في الثالث من يونيو الجاري عن أسفه وقلقه من قيام السلطة القضائية المستقلة في البحرين ممثلة في محكمة الاستئناف بمضاعفة حكم السجن على المدعو علي سلمان أمين عام جمعية الوفاق الشيعية المعارضة، بتهم الترويج لتغيير النظام السياسي بالقوة والتهديد وبوسائل غير مشروعة، وازدراء طائفة من الناس بطريق العلانية، والتحريض ضد وزارة الداخلية وإهانة منسوبيها بوصفهم بـ«المرتزقة». فبدا موقف بان كي مون في هذه الواقعة مشابهًا لمواقف منظمات حقوقية مشبوهة مثل منظمة امنيستي، خصوصًا حينما أوضح المتحدث باسمه ستيفان دو جاريك «إن الأمين العام للأمم المتحدة يعتقد أن الشيخ علي سلمان يجب أن يـُصدر عفو بحقه، لأنه كان يمارس بشكل سلمي وقانوني حقه في حرية التعبير وحرية التجمع السلمي». وهكذا يريد مون أن يقنعنا بالتقارير المغلوطة التي يُزود بها، وهو في نيويورك أي على بعد آلاف الكيلومترات من البحرين، أن الجاني شخص ملائكي مسالم لم يرتكب جرمًا، وأنّ المجني عليه هو الظالم المستبد. وقد تطابق موقفه هذا تماما مع موقف المتحدث باسم الخارجية الامريكية «جون كيربي». وكأنهما صوتان لجهة واحدة.
ومؤخرًا جاءت الطامة الكبرى حينما اتخذ الأمين العام لأكبر محفل دولي قرارًا غريبًا ومستهجنًا، لا يتفق مع أبسط متطلبات الدبلوماسية، وقد يؤخر التوصل إلى حل لأزمة شائكة ومعقدة. والإشارة هنا، بطبيعة الحال، إلى قيام الامين العام بإدراج الحوثيين (جماعة ما يسمى بأنصار الله) والتحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن بقيادة المملكة العربية السعودية على القائمة السوداء للدول والجماعات المسلحة التي تنتهك حقوق الأطفال في النزاعات والحروب بدعوى أن كلا الطرفين تسببا في القتل والتشويه والهجوم على المدارس والمستشفيات وتجنيد الأطفال والمعاناة الإنسانية، علما بأن الذي يستخدم الأطفال من سن 10 وما فوق في حروبه القذرة، ويتسبب في إطالة معاناة المدنيين من أبناء اليمن هي ميليشيات الحوثي والمخلوع صالح وحدها! وقد بنى الرجل قراره هذا على معلومات واستنتاجات مغلوطة نقلتها إليه الممثلة الخاصة لشئون الاطفال في النزاعات المسلحة ليلى رزوقي، الجزائرية الجنسية التي تبدو أنها تقتفي أثر زميلها المغربي جمال بنعمر المبعوث السابق للأمم المتحدة إلى اليمن والذي اختفى بعد أن أدى دورا مضللا في الشأن اليمني، بل التي يبدو أنها تخلط ما بين واجبات منصبها ومواقف حكومتها التي لا تساند التحالف العربي في اليمن ولا التحالف العربي/ الدولي ضد الإرهاب في سوريا بدليل طريقة تصويتها في اجتماعات الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي.
لقد حاولت الأمم المتحدة هنا أن تظهر نفسها كطرف غير منحاز إلى هذه الجهة أو تلك في الأزمة اليمنية الراهنة، لكن موقفها مفضوح لأنه لا يمكن مساواة طرف مغتصب للسلطة بالقوة المسلحة، وسارق لمقدرات الشعب اليمني، ومعيق لعودة الحياة الطبيعية، وحائل دون توزيع المساعدات الإنسانية للمتضررين، بطرف يشهد له العالم أنه يدافع عن الحق والشرعية، ويسعى إلى حماية الشعب اليمني المعتدى عليه من أقلية طائفية مدعومة من دولة إقليمية أدينت بدعم الإرهاب من قبل دول كبرى، إضافة إلى الغالبية الساحقة من دول منظمة التعاون الاسلامي التي هي دول أعضاء في الأمم المتحدة. ونقول أن موقف الأمم المتحدة هنا مفضوح وغير نزيه لأنه يحاول أن يساوي بين الثرى والثريا، والتبر والتراب، والجلاد والضحية. ولعل الأمر الأكثر مدعاة للسخرية هو أن بان كي مون بقراره المستهجن، ضد التحالف العربي، يتراجع، بطريقة غير مباشرة، عما قررته منظمته ومجلس الأمن التابع لها من أن الحكومة اليمنية بقيادة الرئيس عبد ربه منصور هادي، والتي يدعمها التحالف العربي، هي الحكومة الشرعية لليمن.
والسؤال الذي يطرح نفسه في الختام هو لماذا صارت دول الخليج العربية وحدها هي بؤرة اهتمام الأمم المتحدة وأمينها العام، لجهة التنديد والاستنكار وإبداء القلق والفزع وخلافه، فيما لم يكلف السيد مون نفسه باتخاذ قرار او موقف قوي وحاسم يتناسب مع جرائم الإبادة ضد الإنسانية التي تقوم بها إيران والميليشيات التابعة لها في العراق وسوريا، بل لم يكلف نفسه حتى باتخاذ قرار ضد أحكام الإعدام الجماعية التي تصدرها وتنفذها حكومة طهران بواسطة الرافعات المستوردة من وطنه الكوري؟