في بدايات تأسيس المملكة العربية السعودية أحاط الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه نفسه بمجموعة من النابهين والمجاهدين والمتخصصين في مجالات المعرفة المختلفة من شتى البلاد العربية، فكان منهم المصري كحافظ وهبه، والسوري كيوسف ياسين ورشاد فرعون وخالد الحكيم ومدحت شيخ الأرض، والعراقي كعبدالله الدملوجي وموفق الألوسي ورشيد عالي الكيلاني، واللبناني كفؤاد حمزة، والفلسطيني كرشدي ملحس، والليبي كبشير السعداوي وخالد القرقني. لكنه في الوقت نفسه استعان أيضا بعدد من أبناء وطنه ممن قدر لهم أن يتعلموا في الكويت والزبير والبحرين والهند، وأن يراكموا الخبرات، ويتقنوا المراسلات واللغات الأجنبية. من بين الفريق الأخير برزت شخصية حجازية المنشأ والتعليم، حضرمية الأصل، هي المرحوم «عبدالله بن عمر بلخير» الذي سجل حضورًا لافتًا في مجالات السياسة والترجمة والإعلام والشعر والأدب فحق له أن يحمل عددًا من الألقاب مثل «شيخ السياسة والصحافة» و«شاعر الأمة والشباب»، وأن ينال العديد من الأوسمة وقبل ذلك كله أن يحظى بثقة الملك المؤسس ومن بعده الملكين سعود وفيصل.
ولد بلخير في قرية «غيل بلخير» بحضرموت في عام 1902، وفيها تعلم القراءة والكتابة والحساب وقواعد الخط العربي، وحفظ القرآن والحديث. وفيها أيضا تعلق بالشعر وحفظ القصائد. في حدود العام 1914 هاجر مع والده إلى الحجاز، كالكثيرين من أبناء حضرموت، فاختارا حي الشبيكة في مكة المكرمة مكانًا لإقامتهما.
في مكة درس بالخير بالمدرسية الأهلية، ثم التحق بمدرسة الفلاح التي كان الحاج محمد علي زينل قد أسسها هناك في عام1911. بعدها اختير ضمن بعثة دراسية للذهاب إلى جامعة بيروت الأمريكية لاستكمال تحصيله العلمي. وحينما عاد من هذه البعثة التحق أولاً بوزارة المالية، لكنه سرعان ما ترك المالية للالتحاق بالشعبة السياسية في الديوان الملكي في وظيفة مترجم في قسم الاستماع. وللتوضيح فإن الشعبة السياسية كانت «الذراع السياسية للملك عبدالعزيز داخل ديوانه، وذلك في مقابل وزارة الخارجية في مكة المكرمة، وقد تأسستا معًا في عام واحد (1930) ورأسها لأعوام طويلة يوسف ياسين ثم رشدي ملحس» طبقًا لما كتبه المؤرخ والإعلامي الدكتور عبدالرحمن الشبيلي في جريدة الاقتصادية السعودية (2/10/2014).
قلنا إن عمل بلخير ضمن الشعبة السياسية كان في قسم الاستماع الذي تأسس في عام 1934. وهذا القسم كان يلائم مؤهلاته، ولاسيما إجادته للغة الانجليزية وقدرته على الترجمة، حيث كان من مهام القسم رصد الإذاعات العالمية ثلاث مرات في اليوم وكتابة تقرير بآخر الاخبار والمعلومات ورفعها للملك عبدالعزيز. ومن خلال وظيفته هذه استطاع بلخير أن يتقرب من الملك المؤسس الذي اختاره كسكرتير ومترجم خاص. وبهذه الصفة رافق بلخير الملك كمترجم في لقاء جلالته التاريخي مع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في البحيرات المرة في عام 1945، ومع رئيس الحكومة البريطانية ونستون تشرتشل في الفيوم في العام نفسه. بل ان الملك كلفه بمرافقة ابنيه الأميرين فيصل وخالد خلال زيارتهما الطويلة قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى أوروبا والولايات المتحدة. ويبدو أن الأمير (الملك) فيصل رحمه الله أعجب بعلم بلخير واطلاعه الغزير، بدليل أنه كان دائم السؤال عنه والتشاور معه في مختلف الأمور، ثم بدليل إصحابه معه إلى مؤتمر باندونغ للدول الأفروآسيوية في عام 1955 الذي مثل فيه الفيصل بلاده إلى جانب كبار قادة الدول حديثة الاستقلال في آسيا وأفريقيا.
في عهد المغفور له الملك سعود برز بلخير ولمع نجمه بصورة أقوى. إذ كلفه العاهل الجديد بترأس ديوانه كنتيجة لإعجابه بمواهبه المتنوعة وثقته في شخصه، ثم عهد إليه في عام 1954 تأسيس ما لم يكن موجودًا حتى تاريخه وهو جهاز إعلامي يبرز وجه المملكة، ويغطي أخبارها وأنشطة رجالاتها ووفودها في المحافل الإقليمية والدولية، ويصدر النشرات التعريفية وغيرها. ويقال إن قرار العاهل السعودي كان نتيجة لاستيائه من التغطية الباهتة لمشاركة بلاده في المؤتمرات الخارجية قياسًا بالتغطيات الإعلامية للدول الأخرى. وهكذا قام بلخير بإنشاء ما عرف بـ «المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر» في عام 1954 واتخذ لها مبنى مجاورًا لمؤسسة النقد في جدة، وراح يركز في المقام الأول على الإعلام الخارجي من خلال تنظيم دعوات للصحافيين العرب والأجانب، وإرسال الوفود الصحفية السعودية إلى الخارج للتعريف بوطنهم وما يكان يجري فيه وقتذاك من نهضة وتنمية. وفي السنوات التي تولى فيها الرجل ما يشبه اليوم حقيبة الإعلام، أي من عام 1954 إلى عام 1962 لم ينسَ بلخير أهمية الإذاعة والصحافة كسلاحين فتاكين كانت الأنظمة المعادية لبلاده تستخدمهما بفاعلية لترويج الأكاذيب والدعايات المضللة ضد المملكة العربية السعودية وقادتها وسياساتها. فقد شهدت تلك السنوات تأسيس المكتبة الإذاعية في عام 1957، ونقل إذاعة مكة المكرمة إلى جدة، وإنشاء إذاعة أخرى تحت اسم «إذاعة صوت الإسلام»، وإطلاق «مجلة الإذاعة»، وظهور نحو 12 صحيفة يومية إضافة إلى العديد من المجلات الرسمية والأهلية، واستقطاب مجموعة متميزة من الكفاءات الإعلامية العربية والمحلية. إلى ذلك، استغل بلخير موهبته الشعرية، في كتابة 15 نشيدًا وطنيًا حرص على ترويجها من خلال وسائل الإعلام المتاحة وقتذاك، وذلك بهدف ترسيخ الوحدة الوطنية وإنماء الحس الوطني لدى المواطنين في وقت كانت فيه المؤامرات لشق الصف الداخلي السعودي تتعاظم وتتمدد. بل أن الرجل تقدم بتلك الأناشيد إلى لجنة المسابقات في وزارة المعارف السعودية فاختارت الأخيرة منها 13 نشيدًا وأقرتها وعممتها على طلبة المدارس. من بين هذه الأناشيد، نشيد تقول كلماته:
يا شباب العرب مهلا
زمن القول تولى
وهلال الجد هلا
وأتى دور العمل
نحن في عصر جديد
نحن في عصر الحديد
فلنعد ماضي الجدود
وقد يقول قائل إن الإذاعة السعودية في عهد بلخير كانت ضعيفة ولا تتجاوز قوة بثها إقليم الحجاز، وقد يقول آخر إن الصحافة في عهده كانت خاضعة لرقابة منيعة. ورغم صحة هذين الأمرين، اللذين كانت لهما ظروفهما وقتذاك، فإن ما لا يستطيع أحد إنكاره هو أن الرجل وقف وراء بناء كيانات من العدم!
وبصفته رئيسًا لديوان الملك سعود وسكرتيرًا ومترجمًا خاصًا لجلالته ومديرًا لجهازه الإعلامي الوليد، فقد رافق بلخير سيده في العديد من زياراته الخارجية، دعك من حضوره معظم أو كل اجتماعات الملك مع ضيوفه العرب والأجانب. ويكفي دليلاً أنه متواجد دائما في الصور الفوتوغرافية التي التقطت لتلك الاجتماعات في خمسينات القرن الماضي.
ولعل من أبرز الزيارات التي رافق فيها بلخير الملك سعود، زيارة جلالته التاريخية إلى الهند في عام 1955، حيث كلفه الملك بعقد مؤتمر صحفي في فندق تاج محل في بومباي للحديث عن سياسات المملكة الخارجية، فأبلى بلاءً حسنًا وكشف عن موهبة دبلوماسية في الإجابة على أسئلة ملغمة، وأدلى ببيان باسم مليكه استحسنه الهنود جاء فيه:«لقد أعلن جلالة الملك عن بالغ تقديره للجهود الكبيرة التي بذلها رئيس وزرائكم المحبوب البانديت جواهر لال نهرو وحكومته في سبيل نهضة بلادكم وتقدمها، وأعلن جلالة الملك عن امتنانه للمعاملة العادلة التي يحظى بها (40) مليون مسلم في الهند».
وأثناء ذهابه إلى واشنطون في عام 1957 بمعية الملك اقتنص الفرصة وأجرى حوارًا إذاعيًا سريعًا بالإنجليزية مع نائب الرئيس الأمريكي آنذاك «ريتشارد نيكسون». كما كان شاهدًا في هذه الزيارة على اللقاء التاريخي الذي جمع الملك سعود بسمو الأمير عبدالإله بن علي الوصي على عرش العراق والذي كان هو الآخر يقوم بزيارة إلى واشنطون. ولا ننسى في هذا السياق أيضا أن بلخير كان مرافقًا لمليكه في عام 1954 أثناء زيارة جلالته التاريخية الأولى للبحرين بعد توليه الحكم. ففي إحدى الصور الملتقطة نراه يقف خلف المائدة التي يجلس عليها الملك مع مضيفه المغفور له عظمة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة وعمي الحاكم الشيخين محمد وعبدالله بن عيسى بن علي آل خليفة.
من المهام الأخرى التي كان الملك سعود يكلف بها بلخير، والتي تشهد على مدى ثقة الملك فيه وفي حسن تدبيره، تكليفه باستقبال بعض ضيوف البلاد نيابة عنه بسبب ازدحام جدول أعمال جلالته أو تواجد جلالته في العاصمة الرياض. فعلى سبيل المثال كلفه باستقبال السلطان «حسين بن عمر الكثيري» سلطان الدولة الكثيرية الحضرمية في اغسطس 1955، وإنزاله على ضيافة الحكومة السعودية في «فندق الكندرة بالاس» بجدة. كما كلفه ايضا باستقبال زعماء الحضارم وأعيانهم في المملكة من أمثال الشيخ محمد أبو بكر باخشب باشا، أحمد سعيد بقشان، سالم أحمد بن محفوظ، ومحمد عوض بن لادن، وغيرهم.
كتب الدكتور عبدالرحمن الشبيلي في «صحيفة الشرق الأوسط» (10/11/2013) ما معناه أن مسيرة بلخير المهنية توقفت قبيل انتهاء حقبة الملك سعود بوقت قصير، حيث تم في عام 1961 تعيين الشيخ جميل الحجيلان خلفًا له كمدير عام للاذاعة والصحافة والنشر، لأن المصلحة العامة اقتضت، في تلك الفترة الحرجة داخليًا وخارجيًا، إحداث التغيير. وحينما تولى الملك فيصل الحكم في عام 1964 وشكل وزارة جديدة، حلت «وزارة الإعلام» مكان المديرية الذي غرس بلخير بذرتها وتعهدها بالسقاية والرعاية منذ منتصف الخمسينات، واستدعى الفيصل سفير المملكة آنذاك في الكويت جميل الحجيلان لتولي حقيبتها.
وهكذا تقاعد بلخير عن العمل الرسمي وانسحب بهدوء من الساحة السياسية والإعلامية، وغادر وطنه برفقة عائلته إلى بيروت، وأمضى السنوات التالية من عمره إما مقيمًا في بيروت أو القاهرة او سائحًا في بقاع العالم. وما بين هذا وذاك كان يمارس هواياته في نظم الشعر والقراءة وكتابة مذكراته.
قلنا إن قرض الشعر وحفظ القصائد هواية التصقت بعبدالله بلخير منذ سنوات طفولته في حضرموت. لكن هذه الهواية نمت مع نمو صاحبها في الحجاز فبات قادرًا على نظم القصائد والاناشيد الجميلة، مثل قصيدته المسماة «ملحمة قرطبة» والتي يقول مطلعها:
شبه الجزيرة موطني وبلادي
من حضرموت إلى حمى بغداد
أشدو بذكراها وأهتف باسمها
بل أنه قضى السنوات الأربعين التالية من عمره منذ تقاعده يكتب الشعر التاريخي الوجداني، جاعلا من الإسلام والمسلمين موضوعه الرئيسي إلى درجة أنه لقب بـ «شاعر الأمة».
ومما يروى عنه في هذا السياق طبقًا لما كتبه محمود عبدالغني الصباغ في مدونته الإلكترونية أن العلاقة الدبلوماسية بين المملكة السعودية والمملكة المصرية كانت مقطوعة على إثر حادثة المحمل الشهيرة.
وكانت هواجس الملك فؤاد الأول بحمل لقب «الخلافة الإسلامية» تحرضه على إطالة الجفوة مع ابن سعود، وتعليق الاعتراف بكيانه الجديد. ولم تنجح كل المحاولات التي بذلها حافظ وهبة، وزير الملك عبدالعزيز، لتقريب وجهات النظر، ولا الوساطات التي قام بها من الطرف المصري الشيخان الظواهري والمراغي. وفي عام 1933، أوعز الجانب المصري الى الزعيم الاقتصادي المصري طلعت باشا حرب بزيارة مكة للاجتماع بملكها، والنظر في أمر استئناف التمثيل الدبلوماسي.
يقول الصباغ (بتصرف): «جاء طلعت حرب إلى مكة على رأس وفد اقتصادي رفيع، محمولاً بحزمة مشاريع اقتصادية وتنموية، منها إنشاء فندق حديث في مكة، والشروع في افتتاح خط طيران تجاري بين القاهرة وجدة، وافتتاح فرع لبنكه الشهير (بنك مصر). فاستقبل في احتفالات بروتوكولية حضرها الملك عبدالعزيز ونائبه بالحجاز الأمير فيصل، ووزير المالية الشيخ عبدالله السليمان. في ذلك الحفل، ومن دون أي ترتيب مسبق، تسلل أحد شبان مدارس الفلاح، وأصر على إلقاء قصيدة بين يدي طلعت حرب. وبمجرد أن صرح له، اندفع يلقي بحماسة شديدة، قصيدة جاء فيها:
يا حمام الحمى تغن بشعري
في ربى الروض بكرة وأصيلا
وارفع الصوت حين تسجع حتى..
يرد الصوت دجلة والنيلا
عل مصرا تصغي فتسمع ماذا
في ربوع الحجاز أمسى مقيلا
الى أن قال:
لو مشت مصر نحو «مكة» شبرا
لمشت «مكة» إلى مصر ميلا
ذلك الشاب كان الشيخ عبدالله بلخير الذي توفي عن عمر ناهز المائة عام، في الثامن من ديسمبر 2002 أثناء تلقيه العلاج الطبي من أمراض الشيخوخة في أحد المستشفيات اللبنانية، وكان قد أوصى أنجاله بأن يدفن في مكان وفاته أينما كان وذلك تيمنًا بالسنة النبوية. فدفن في بيروت.
قال عنه د. عبدالله باطرفي في مقدمة الكتاب الذي أصدره عن حياته تحت عنوان «عبدالله بلخير يتذكر»: «الشيخ عبدالله بلخير مجموعة شخصيات لم يصغها زمن واحد، ولكنه جملة أزمنة، فهو صاحب أمزجة ومواهب وخبرات متعددة، فقد اجتمعت فيه شخصية السياسي، والإعلامي، والأديب، والخطيب، والرحالة، ورغم رصيد هذه الخبرات والمعلومات التي جناها خلال ثمانية عقود من عمره الحافل رحمه الله فقد كان يأبى أن يسجلها أو ينشرها، حتى طلب منه ذلك والد الإعلام والتاريخ في بلادنا (يقصد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز)».