كلام الرئيس الإيراني حسن روحاني عن قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الجنرال قاسم سليماني، أوضح للذين راهنوا عليه وضده أين يقع في موازين الخلافات الداخلية الإيرانية، وما هي آفاق تعديله للطموحات الإيرانية الإقليمية. فروحاني أشاد بـ «بطولة» سليماني و «بسالته» و «شجاعته» «في إيران وأفغانستان وسورية وفلسطين»، واعتبر «الحرس الثوري» مسؤولاً ليس فقط عن أمن البلاد إلى جانب «الجيش والشرطة والباسيج» وإنما كذلك مدافعاً عن «مواقعنا المقدسة في العراق وسورية، والدفاع عن المستضعفين في لبنان وفلسطين وأفغانستان وفي أي مكان يُطلب منا ذلك».
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف يتفهمان تماماً أقوال روحاني وهما أيضاً مقتنعان بضرورة أفعال سليماني. في المقابل، يفضل الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري التظاهر بأنهما لا يسمعان ولا يقلقان من إفرازات وخطورة تبني إيران، على أعلى المستويات، مغامرات عسكرية خارج حدودها بتدخّل عسكري معلن في دول عربية. وهما يفضلان أن يتجاهلا احتجاجات قيادات عربية وتركية لعلها تهدد العلاقات الأميركية – الإيرانية التي باتت ركيزة التركة التاريخية لباراك أوباما، وتعكّر العلاقات الأميركية – الروسية التي أصبحت أولوية جون كيري الطامح إلى جائزة نوبل يشاركه فيها عزيزه سيرغي لافروف. هذا الطموح لن يرى النور طالما أن الثنائي الشهير، لافروف – كيري، يقذف بسورية إلى المزيد من المآسي وهدر الدماء تارة بتفاهمات تخديرية وتارة بتهديدات تجميلية. سمعة الثنائي اليوم ليست طيبة مهما ظنّ العكس، نتيجة بيانٍ هنا ومصافحة هناك. سيرتهما التاريخية لن تسجّل لهما إنجاز الاختراق الكيماوي الذي يحمل عنوان تراجع أوباما عن خطوطه الحمر، بل ستسجّل تقاعسهما وتفاهمهما على تحريك «العلامة» طبقاً للمقتضيات وليس التزاماً بالمبادئ والأخلاقيات إزاء أسوأ كارثة إنسانية في عصرنا الحديث. فلا جائزة سلام لهما. ولا جائزة نوبل للسلام للرئيس حسن روحاني الذي قرأ جيّداً نظيريه الأميركي والروسي، وقرر أن أمامه فسحة المناورة السياسية الضرورية بعيداً من اضطراره لإثبات الاعتدال والعزم على أخذ إيران إلى جديد في علاقاتها الإقليمية، بعيداً من التدخل العسكري وطموحات الهيمنة الإقليمية. وليته لم يفعل.
كل هذه المعطيات تزيد من شكوك المعسكر الذي أصر منذ البدء على أن ما يحدث في طهران هو مجرد توزيع أدوار وأن لا فارق بين عمامة الاعتدال وعمامة التطرف، إذ إن كليهما يعتبر «الحرس الثوري» أساس الثورة الإيرانية وراعي استمرارها في إيران. هذا مهم، لأن هناك معسكراً آخر كان يقول: اصبروا. فالاعتدال آتٍ إلى طهران بسياسات جديدة وبلجم حقيقي لطموحات الهيمنة الإقليمية وسياسات التدخل في الدول العربية.
الدول الخليجية تفكّر فعلياً في خياراتها، وبعضها يتخذ إجراءات تأخذ في حسابها وضوح المواقف الإيرانية والسأم من المواقف الأميركية وطفح الكيل من المواقف الروسية. لن يُترجَم ذلك بخوض حروب مباشرة، لكنه قد يُترجم بإطالة الحروب حيث تقع مع تعزيز شراكة الأمر الواقع الأميركية – الروسية – الإيرانية – الخليجية – التركية نحو حروب بالنيابة في سورية والعراق واليمن ولبنان، وليس في أراضي أي من الدول الكبرى الخارجية أو الإقليمية. وليس في الأمر أخلاقية السياسة وإنما مصالحها.
ذلك العنصر العسكري في حسابات بعض الدول الخليجية وتركيا ساهم في إصدار البيان الأميركي – الروسي الأخير هذا الأسبوع، والذي كان له طعم المقايضة وليس طعم العزم على نقلة نوعية نحو حل جذري للمعضلة السورية. فموسكو وافقت على مجرد «تقليل» عدد العمليات الجوية في المناطق المشمولة بوقف النار. وواشنطن وافقت على «زيادة» الدعم لحلفائها الإقليميين – أي تركيا بالدرجة الأولى – لمساعدتهم على «منع تدفق المقاتلين والأسلحة أو الدعم المالي للمنظمات الإرهابية عبر حدودهم».
تلا ذلك التصدي لمحاولة روسيا في مجلس الأمن الدولي أن تضيف «أحرار الشام» و «جيش الإسلام» إلى لوائح التنظيمات الإرهابية الخاضعة لعقوبات دولية على غرار تنظيمي «داعش» و «القاعدة»، علماً أنها تقدمت بالطلب قبل أسبوعين. وأتى تعطيل هذا المسعى بمعارضة أميركية وبريطانية وفرنسية حفاظاً على مسار المفاوضات في جنيف، وتجنباً لعرقلة جهود وقف الأعمال القتالية ميدانياً.
مسار المفاوضات السياسية يتشابك عملياً مع مسار العمليات العسكرية منذ فترة طويلة، بقرارات مسبقة من المحور الذي يضم روسيا وإيران و «حزب الله» وميليشيات أخرى تابعة لطهران والنظام في دمشق. معركة حلب حاسمة في حسابات هذا المحور، ميدانياً، بغض النظر عن بيان أميركي – روسي أو لقاء مجموعة «أصدقاء سورية» في باريس أو اجتماع وزاري آخر في فيينا. فالميدان يسابق، بل ويسبق طاولة المفاوضات تعمداً لفرض واقع تلو الآخر يؤدي إلى تكبيل أيدي الداعمين للمعارضة السورية، وإلى تراجع تلو الآخر للمواقف الدولية، خصوصاً الأميركية وإلى فرض الاستسلام على المعارضة المعتدلة عسكرياً وسياسياً.
فمن يوم انعقاد الاجتماع الوزاري لمجموعة باريس في 9 أيار (مايو) إلى انعقاد الاجتماع الوزاري لـ «عملية فيينا» في 17 منه، أصدر وسيُصدر جون كيري تصريحات «عقد الحاجبين» استياء من المواقف الروسية والإيرانية ليلجمها قليلاً، وليحذّر من الخطة «باء» أو من المستنقع الذي يتربص الروس في سورية. وتارة أخرى سنسمع من جون كيري الكلام المعسول وهو يمارس ديبلوماسية «المصافحة والابتسامة» أمام عدسات التلفزيون ويطمئن زميله لافروف إلى أن صفحة أخرى أُضيفت إلى مجلد التفاهمات الأميركية – الروسية على حساب سورية.
الأمم المتحدة أيضاً ستعرب عن مشاعرها وقلقها وانزعاجها وإصرارها على الحل السياسي وإنقاذ المفاوضات بتهرب كامل من مسؤولية المحاسبة، وبتعمد غض النظر عن تجاوزات تتنافى مع قراراتها – وذلك باسم الحرص على العملية السياسية والانصياع إلى الأمر الواقع كما تفرضه التطورات الميدانية.
الأمانة العامة تتحدث عن جرائم حرب في سورية وتتعمد ألا تحمّل الحكومة وحلفاءها المسؤولية وألا تبيّن أن المجموعات الإرهابية التي ترتكب جرائم حرب هي، كما هي، إرهابية خارجة عن القانون. أما الحكومات المعنية بجرائم الحرب السورية فهي، بموجب القانون الدولي، مسؤولة عن كل جريمة حرب ترتكبها ويجب أن تفضح وتُحاسب بدلاً من غض النظر والتستر عليها. فالأمم المتحدة تكتفي بالمشاهدة وتتهرب من المحاسبة.
الأمانة العامة للأمم المتحدة، وكذلك الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، دفنت الرؤوس في الرمال عندما كانت إيران تتحدى نظام العقوبات وتنتهك قرارات مجلس الأمن الملزمة بموجب الفصل السابع من الميثاق، وتبعث المستشارين العسكريين والميليشيات التي تستأجر عناصرها للقتال في سورية. الصمت الدولي الذي بارك تلك الانتهاكات ساهم فعلياً في تحويل الساحة السورية إلى مغناطيس اجتذاب المتطوعين للميليشيات الأجنبية المتحالفة مع النظام في دمشق، بعدما كان التقاعس الدولي في بداية الحرب السورية أداة من أدوات إنماء الإرهاب وتوسعه في الرقعة السورية.
اليوم، كافأت الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا ومعها ألمانيا وممثلة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، كافأت الحكومة الإيرانية على إنجاز الاتفاق النووي بإلغاء مفعول مجموعة قرارات أصدرها مجلس الأمن، ومن بينها القراران اللّذان حظرا على طهران توفير السلاح والمسلحين والمستشارين العسكريين في كل مكان خارج حدودها. اليوم، تعلن طهران جهراً أن لها ذراعاً عسكرية في سورية دعماً للرئيس بشار الأسد، وتدخل بذلك طرفاً في الحرب الأهلية بصورة مباشرة وعبر ميليشياتها.
اليوم، يُعلن راية الاعتدال الإيراني، الرئيس حسن روحاني، في خطاب ألقاه في كرمان جنوب شرقي إيران، أن «الحرس الثوري» الإيراني «يساهم في إرساء الأمن في دول استنجدت» بطهران وهو هناك «بمنتهى الإقدام والشجاعة»، معدداً العراق وسورية وفلسطين ولبنان. يقول: «نشهد الآن آثار بطولات سليماني في إيران وأفغانستان والعراق وسورية ولبنان»، ويوجه تحية التقدير لبسالته وشجاعته، فيما يتوعّد مسؤولون إيرانيون آخرون بـ «انتقام عظيم» من قتل 13 مستشاراً عسكرياً إيرانياً في «الحرس الثوري» في سورية.
الألوية العسكرية الإيرانية تتوجه اليوم إلى سورية علناً، لتطويق حلب بالتنسيق مع الغارات الروسية والسورية وذلك في حرب هذا المحور ليس ضد «داعش» وإنما ضد فصائل المعارضة السورية المعتدلة. وهذا قرار متعمد وليس إفرازاً. فالهدف من موافقة المحورين على الهدنات هو تقوية الحظوظ العسكرية للنظام في الميدان، لا سيما أن الدول التي تدعم المعارضة السورية تساهم عملياً في استنزافها تارة بحجب السلاح عنها، وتارة عبر تفاهمات دولية وإقليمية تقيّدها. وببساطة، في غياب الزخم والاستمرارية في سياسة عسكرية واضحة دعماً للمعارضة السورية، تنجح استراتيجية استنزاف المعارضة وإجبارها على الاستسلام العسكري سوية مع الاستسلام السياسي في المفاوضات.
فمحور روسيا – إيران في سورية واضح ومتماسك في استراتيجيته الميدانية والتفاوضية، وهو يراهن على اللاتماسك والتردد والوهن في استراتيجيات الذين يدعمون المعارضة السورية.
لذلك، إن الاتفاق على الهدف ووقف النار أفضل بالطبع من النزيف الدائم، وإن إعلان روسيا والولايات المتحدة عن رغبتهما في تسوية سياسية قريباً تطور يلقى الترحيب والتشجيع. إنما، واقع الأمر هو أن روسيا تتبنى استراتيجية ميدانية هدفها زج المعارضة السورية في خانة الإرهاب كما سبق وفعلت بـ «جبهة النصرة» قبل أن تلجأ هذه الأخرى إلى الإرهاب. واقع الأمر أن قلق وزير الخارجية الأميركي على سقوط روسيا في مستنقع سورية ليس سوى تصريح آخر يكتسب، للأسف، صفة اللاجدية في السياسة الأميركية. فما لم تلتزم واشنطن بآليات مراقبة ومحاسبة، يسقط كلامها المعسول سمّاً على أجساد المدنيين الأبرياء في سورية، حدته ليست أقل من حدة الغارات الروسية والحشود الإيرانية عبر الميليشيات وجرائم التنظيمات الإرهابية ومَن يدعمها وما يرتكبه النظام في دمشق من فظائع ضد شعبه.
نقلا عن ایلاف