في مؤشرات الحدث الليبي، بعد السوري والعراقي، أن الوصاية الدولية عائدة بحيوية يروج لها مزاج الناس، قبل المزاج الدولي، بعد أن أثبت أصحاب ‘الربيع’ عجزا بنيويا عن إنتاج السلطة وإدارة شؤون العباد.
قد يكون بالإمكان التسليم بأن العبث الليبي (كما ذلك السوري) يعود مباشرة إلى إرادة / لا إرادة دولية رعته وفاقمت من وقعه. لا يهم ما إذا كان هذا العبث قرارا مبرمجا خرج من الغرف الدولية المغلقة، أو أنه نتيجة آلية لسكوت تلك الغرف وعزوفها عن إنتاج أي حلول. ما يهمنا أن ما حسبناه فوضى معقّدة متشابكة ملتصقة بفسيفساء الحال الليبي بين قبائل وجهات، بدا أنه افتراضي يسقط في ميادين الواقع حين يقرر المقررون فرض الوقائع وتبديد الأوهام.
لا نملكُ الكثير من المعطيات التفصيلية الميدانية للكشف عن سرّ “البركة” التي تصبّ الحلّ الليبي في أطباق المتنازعين، لكن منطق الأمور انطلاقا من الحالة السورية يفيد بأن محركات جرت إعادة تشغيلها في عواصم القرار للتدخل بجدية لإطفاء الحرائق في المنطقة. ولئن كان لغياب الإطفائيين سببا خبيثا، فإن استنفارهم من جديد تحفّزه عجالة داهمة لا تحتمل تأملا ولبسا وإهمالا.
أدلى سيد البيت الأبيض بدلو مباشر في الشأن الليبي. كان لما كشفه جيفري غولدبيرغ في “ذا آتلانتيك” قبل أسابيع وقعا مزعجا في آذان باريس ولندن، ذلك أن الرئيس باراك أوباما وجّه سهامه إلى الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، كما إلى ديفيد كاميرون رئيس الحكومة البريطاني الحالي، يؤنّبهما على أدائهما “الكارثي” في ليبيا.
لا تخلو العلاقة التاريخية بين باريس وواشنطن من غمز ولمز وتناتش بحكم السياق التاريخي المعقّد بين فرنسا والولايات المتحدة. يتذكّر المتابعون لسيرورة العلاقات بين البلدين سلسلة من التباينات في السياسة الخارجية ضمن العائلة الغربية. كان الجنرال شارل ديغول قد رفض في لحظة ما هيمنة واشنطن على القرار العسكري في حلف الناتو، ففتح الباب وأخرج بلده من الهيئات العسكرية للحلف (1966). وكان جاك شيراك الديغولي أيضا قد رفض مشاركة الولايات المتحدة غزوها للعراق (2003)، فيما ألقى رئيس وزرائه دومينيك دو فيلبان خطبة شهيرة تندد بتلك الحرب في مجلس الأمن. وما بين المثالين المتباعدين حكايات نفور وحذر. بالمقابل اتسمت علاقة واشنطن ولندن بتكامل وتنسيق على النحو الذي كان يوصف بأنه تبعية كاملة لبريطانيا للولايات المتحدة، حتى أن ديغول كان يعتبر أن بريطانيا هي مجرد “حاملة طائرات أميركية في قلب أوروبا”. وعليه عاند الرئيس الفرنسي دخول بريطانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة آنذاك، ولم تستطع لندن ولوج الأبواب الأوروبية إلا بعد أن غادر ديغول الحكم وتقاعد عن العمل السياسي نهائيا.
فأن ينتقد رئيس أميركي رئيسا فرنسيا سابقا، فذلك من عاديات الأمور، أما أن يهاجم أوباما زعيم البلد الحليف تاريخيا، فذلك أن العلّة الليبية باتت تقلق واشنطن، بحيث أن قيْحها بدأ يهدد الأمن الاستراتيجي الدولي، ما يستدعي مراجعةً لأداء، وتقييما لمؤدّين، كما يستدعي الانخراط في علاجات شاملة تكون على مستوى الحدث.
تتحرك القوى الكبرى في ليبيا بنفس الجدّية العجائبية التي تتحرك بها في سوريا. وفي الحالتين تبدو همّة الكبار متّصلة بالمصالح المباشرة للكبار، وإن كان التحرك في ليبيا بقي غائبا على الرغم من سقوط السفير الأميركي في ليبيا (سبتمبر 2012) ضحية العبث الليبي، ما يطرح أسئلة حول أسباب ذلك الشلل في تلك الحقبة، وأسباب هذه الهمّة في الزمن الراهن.
عقدت العواصم الكبرى العزم على طيّ الملف الليبي منذ أن استنفرت دبلوماسييها وأجهزة مخابراتها للتجمع في مدينة الصخيرات في المغرب توسّلا لاتفاق، بقوة الوهج الدولي، لإنتاج التسوية المتوخاة (ديسمبر الماضي). كان واضحا أن الدينامية الليبية المتحررة من أي قيود إقليمية دولية، أو تلك التي تحركها أنامل إقليمية دولية، عاجزةٌ عن إنتاج عقاقير الحل. بدا أن حركة تمرد كبرى عابرة للتيارات والفصائل والمشارب الليبية قد فرضت، بالتواطؤ مع تلك الإرادة الدولية المستجدة، اتفاقا جرت رعايته علنا، بما يوحي لكافة الفرقاء في الداخل بأن قطار التسوية قد انطلق تاركا وراءه كل من يتخلّف عن الالتحاق به.
لم يكن صعبا على “الحاكمين” في طرابلس وطبرق ملاحظة ذلك الانقلاب في المزاج الدولي العام، ولم يكن سهلا الإقرار به والتسليم بثماره. ولا بد أن المراقب للشأن الليبي قد تفاجأ من تقاطع موقف رئيس المؤتمر العام في طرابلس نوري أبوسهمين، ورئيس مجلس النواب في طبرق صالح عقيلة، كما رئيس حكومة طرابلس خليفة الغويل، ورئيس حكومة طبرق عبدالله الثني في مقاومة مفاعيل اتفاق الصخيرات (حكومة السرّاج). وبدا أن “عدّة” ذلك العناد تنهلُ من تقليعات ظهرت أنها تقادمت في موسم التحوّل الدولي الجديد في ليبيا.
لم يكن بالإمكان تخيّل احتمالات وقف لإطلاق النار في سوريا، كما لم يكن بالإمكان تصور حياكة هدنة على مقاس العشرات من الفصائل والجماعات والتيارات المنتشرة في الأنحاء السورية. أثبتت “العجيبة” السورية أن للعبث والفوضى مفاتيح وعناوين تعمل بتناغم وتنسيق حين يطلب منها ذلك. ظهر أن الرعاة الإقليميين، كما الدوليين، يمسكون بحراك الميادين، ما يفسّر الالتزام النسبي بالهدنة المفروضة بمرسوم روسي أميركي. وبدت الاختراقات الكبرى، كتلك على تخوم المناطق الكردية أو في أرياف حلب واللاذقية، أنها لا تخرج عما هو مرسوم، بل تأتي لتدعّم الخرائط، وتذكّر الطامحين إلى تمرد بالانضباط ضمن رقعة اللعب المتاحة.
من تلك الحالة السورية بالإمكان استنتاج انسحاب المنهج والأدوات على الحالة الليبية. نقلت الأنباء منذ أيام أن رئيس المجلس الرئاسي ورئيس حكومة “الصخيرات” (ولدت استنادا إلى بيان تأييد موقع من 100 نائب من بين 198) المعترف بها والمدعومة دوليا فايز السرّاج قد انتقل بالقوة إلى طرابلس. في تفاصيل الحدث أن الرجل انتقل بحرا من شواطئ صفاقس التونسية باتجاه العاصمة الليبية دون أي مواكبة عسكرية (معلنة). كان من المفترض أن تنتظره مقاومة مسلحة هددت رسو سفنه، ومع ذلك فإن الرجل وصحبه، في المجلس الرئاسي، الواثقين من بواطن الأمور وصلوا سالمين إلى القاعدة الجوية في طرابلس وقد استقبلهم إعلان المعارضة المسلحة أنها ستبقى معارضة لكن غير مسلحة، كما إعلان مدن ساحلية عن دعمها لـ“الحكومة الشرعية” الجديدة، كما إعلان حراس المنشآت النفطية (وما أدراك ما النفط في الأجندات الدولية) ولاءهم لحكومة السراج.
ترجّل رجل ليبيا الجديد وقد سبقته قرارات دولية تفرض عقوبات على الشخصيات المعطّلة لاتفاق الصخيرات (صالح، أبوسهمين، الغويل). ترجّل رجل ليبيا الجديد وقد سبقه قرار العواصم الحاسم بطيّ صفحة العبث الليبي، حتى لو استدعى ذلك تدخلا أطلسيا لا تردد فيه، لا سيما بعد أن ضرب الإرهاب قلب عاصمة الحلف الأطلسي، بروكسل. ترجّل رجل ليبيا الجديد وقد سبقه تعميمٌ من أصحاب المفاتيح الإقليميين والدوليين بإقفال الأبواب على أي تمرد أو عناد على ما أُريد له أن يكون.
في مارس الماضي حاول مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا مارتن كوبلر زيارة العاصمة الليبية، بيد أن سلطات الأمر الواقع في المدينة منعت ذلك. وقبل أيام حطّ الرجل في مطار معيتيقة (علقت حركة الملاحة فيه مرارا لمنع وصول السراج)، وراح يجول في المدينة ويتنقل في شوارعها للقاء ممثلين لمجالس بلديات طرابلس الكبرى. بين الزمنيْن تغيرت أحوال تشي بتصاعد نفوذ حكومة الوفاق الوطني في المدينة، مقابل تلاشي نفوذ سلطة حكومة خليفة الغويل. وفي تصريحات الدبلوماسي الأممي (الألماني) “تعليمات” تدعو إلى تعاون “كل الأطراف لتسليم السلطة بشكل فوري” إلى حكومة السرّاج.
لم يكمل السراج أسبوعا على عودته حتى جاءه دعم بلديات مدن الغرب والشرق، كما تأييد المؤسسات الحكومية المالية والاقتصادية الرئيسية (البنك المركزي، والمؤسسة الوطنية للنفط، والمؤسسة الليبية للاستثمار في طرابلس)، كما تلويح الدول بإعادة فتح سفاراتها (تونس أعادت فتح سفارتها)، ما يعكس التزاما بـ“العجيبة” الليبية وجدية استمرارها.
يستند الإنجاز العراقي في تحرير مدن البلاد من احتلال داعش على توفّر عنوان حكومي واحد بالإمكان التعامل معه، على عِلله. هكذا تنخرط الإدارة الأميركية في الجبهة العراقية معوّلة على التنسيق مع بغداد وعاملة على حماية حيدر العبادي ومنع انهيار حكومته. ويعود التردد في الحالة الداعشية السورية من قبل واشنطن إلى غياب ذلك العنوان الحكومي الواحد وتعقّد إدارة المعركة ميدانيا بين نظام ومعارضة، وبين أكراد وعرب. في ذلك أن المجتمع الدولي أنشأ عنوانا ليبيا واحدا، وعزم الأمر على منحه الدعم والرعاية والغطاء وتسهيل استقراره في قلب البركان الليبي، بهدف مواجهة خطر تمدد داعش في ليبيا من جهة، ومكافحة الهجرة غير الشرعية من السواحل الليبية نحو أوروبا، من جهة أخرى.
سيتحدث المتضررون كثيرا عن شرعية دستورية مفقودة وثقة غائبة لتبرير معزوفات الاعتراض. وسيكتشف الغائبون عن القطار الدولي أن الدساتير أدوات يجري تطويعها، وأن الأمر الواقع الذي أنتح دستورا بعد سقوط نظام القذافي، قد تهاوى قبل أن تُسقطه مصالح الدول الكبرى. في ذلك، ووفق شروط الساعة الدولية، وبرعاية أصحاب المفاتيح، تتنحى حكومة الغويل في طرابلس، ذلك أن “أمر العمليات” الذي يحمله المبعوث الدولي يقضي بتسليم السلطة “فورا”.
في مؤشرات الحدث الليبي بعد السوري والعراقي، أن الوصاية الدولية عائدة بحيوية يروج لها مزاج الناس، قبل المزاج الدولي، بعد أن أثبت أصحاب “الربيع” عجزا بنيويا عن إنتاج السلطة وإدارة شؤون العباد.
صحافي وكاتب سياسي