لا يمكن للمسيحيين إلا أن يعتبروا أنفسهم استثناء في محيط طاغ. المسيحيون العرب هم أقلية في الكم مقارنة بالمسلمين، وبالتالي لا يمكن تجاهل هذا الثابت خجلا من متحولات هذه الأيام.
عمل المسيحيون اللبنانيون على حماية أنفسهم داخل كيان جاهدوا لنيله وانتزعوه من براثن الدول العظمى المتقاتلة. انتقلوا من متصرفية تسللت من وراء ظهر السلطنة العثمانية، باتجاه دولة مستقلة رسموها مع الفرنسيين، بما يكفل لهم ولكيانهم ولفكرتهم ديمومة وأمانا. كان بإمكانهم أن يختاروا دولة مسيحية خالصة نقية، فأبوا ذلك، وكان بإمكانهم أن يستسلموا لقدرية أن يكونوا جزءا من كيان أكبر لوّحت به الثورة العربية الكبرى، فأبوا ذلك أيضا.
عام 1919، في قصر فرساي، سأل رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق جورج كليمنصو وفدا من مسيحيي لبنان عما يريدون؟ دفعوا بالخرائط، ورفضوا أن تُضم دمشق إلى دولتهم العتيدة، “كونها عاصمة سوريا”، فكان أن استسلم جورج كليمنصو لمزاج الوفد، ورُسمت على طاولة خارطة لبنان الحالي.
التقيت الدكتور فارس سعيد مؤخرا في الرياض من ضمن المشاركين بمهرجان الجنادرية. أفرج الرجل عن قلق مسيحي، وعن حرص على طبيعة الكيان. في مواقفه السياسية ما يعكس نضجاً لا يتأثر بنزق “الحرتقات” السياسية الراهنة، بل إن في خطابه عبق انبهار بالتاريخ. وفي موسم العصبيات، تحت عناوين الخوف، يدافع فارس سعيد عن هذه الخلطة اللبنانية بصفتها الوصفة الصحيحة للدفاع عن مناعة الوطن.
وحين تسأله عن سرّ ذلك النضج وذاك الاختلاف، يقول لك الكثير عن تيار تاريخي لدى مسيحيي لبنان في اعتماد تلك المقاربة المعتدلة الوسطية التي تعتبر الوجود المسيحي أصيلا عريقا من خلال تواصله واعتباره امتدادا لهوية المنطقة.
يسألُ فارس سعيد المسيحيين هذه الأيام ماذا لو أتاكم كليمنصو هذه الأيام وسألكم ماذا تريدون فبماذا تجيبون؟ مناسبة السؤال أتت ضمن خطاب ألقاه في خلوة سيدة الجبل الأخيرة. في السؤال تحرّش حاذق بالوجدان المسيحي، ذلك أن المسيحيين “أم الصبي”، وأنهم يتحملون مسؤولية “اقتراف” نشوء الكيان اللبناني، وربما يتحملون، أيضا، قسطاً خفيا من المآلات الراهنة له.
دافع المسيحيون بالكلمة والفكرة والتميّز والسلاح عن لبنانهم. ولبنان بالنسبة إليهم هو تلك الفكرة التي أرادوها استثناء متقدما في هذا الشرق. ظنوا لوهلة أن بإمكان الفكرة في عجينتها الفلسفية أن تصمد أمام تبدل الطبائع وتغير الأحوال في نفس هذا الشرق الذي لا يستقر على حال. وحين بدا لهم أن الفكرة اللبنانية التي يقدّسونها باتت أصغر من لبنان الذي ارتضوه ورسموه، راحوا في “ساعات التخلي” يبشرون بتقطيع الكيان على مقاس الفكرة، حتى لو كان ثمن ذلك تقسيما وتفتيتا.
عرف المسيحيون خلال الحرب الأهلية حلقات دراماتيكية نبهت العقل المسيحي إلى الهاوية التي يسيرون نحوها. خاض المسيحيون آنذاك حروبا داخلية، مسيحية مسيحية، تحت مسميات مختلفة، على النحو الذي بدا فيه أن إثم التقسيم يتمدد داخل الجسم المسيحي نفسه، بحيث يصار إلى الانتحار من أجل تحويل الفكرة إلى مقدس يولّد دكتاتوريات لا تشبه التجربة اللبنانية منذ النشوء.
ربما أن تعويل المسيحيين على ضرورات التعايش مع المسلمين داخل البلد الواحد، يعود أيضا، إلى تمسك المسلمين بالمناصفة، التي نصّ عليها اتفاق الطائف، ليس منّة بل حاجة إلى الحفاظ على استثنائية لبنان وفرادته في هذا الشرق الكبير.
وربما أيضا بات المسيحيون مدركين أن خلافات الأغلبية في هذا الشرق ورواج الفتن داخلها لن يكون مناسبة تحمي الأقلية وتؤجل الشرور ضدها. بدا أن الفتنة السنّية الشيعية التي تأخذ أشكالا متباينة في المنطقة، وأشكالا مؤذية في لبنان، أضحت شأنا مسيحيا بامتياز.
نعم هو شأن مسيحي بات يهدد أمن المسيحيين والمسيحية في لبنان. بات على المسيحيين أن يدلوا بدلوهم لإنهاء تلك الحالة والتخلص من خبثها.
لا يمكن للمسيحيين إلا أن يعتبروا أنفسهم استثناء في محيط طاغٍ. المسيحيون العرب هم أقلية في الكمّ مقارنة بالمسلمين، وبالتالي لا يمكن تجاهل هذا الثابت خجلاً من متحوّلات هذه الأيام. صحيح أن عقائد المنطقة العروبية والقومية السورية واليسارية الاشتراكية الشيوعية قد “شوّهت” نقاء الفكرة المسيحية التي أسست للبنان أوائل القرن الماضي، بيد أن سقوط تلك العقائد حرر المسيحيين من براثن الأيديولوجيا وأعاد للفكرة المسيحية بريقا، ربما تجلّى في ما وسمه البابا يوحنا بولس الثاني من أن لبنان ليس بلدا، لبنان هو رسالة.
يتأمل مسيحيو “الخلوة” العالم وقد تغير. في ورقة سعيد ما يفصح عن ذلك؛ عالم معولم بقيادة واشنطن، فشل النظام العربي، بروز التطرف ما بين ولاية الفقيه والخلافة، دخول الإسلام كناخب في أوروبا، بروز تيار مدني أفرج عنه “الربيع العربي”، إطلالة دول إقليمية غير عربية على شؤون العرب، بروز دور جديد للرياض، تقدم روسيا في المنطقة العربية، والعودة من جديد إلى مقاربة المنطقة من خلال إثارة موضوع الأقليات.. إلخ. هي محطات تذكّر المسيحيين بأنهم ما باتوا يقطفون ثمار حروب كبرى، بل أنهم يعيشون في زمن الحروب العبثية التي قد تفتك بهم وجودا وحضورا، أو الاثنين معا.
يدرك المسيحيون بوعي أن الشراكة مع المسلمين باتت ضرورة وليست قدرا، وأن لبنان الذي أرادوه مسيحي العبق بات بلدا مخصّبا بفضاءات متعددة، لكنه شديد الالتصاق، وربما الانبهار، بالفكرة المسيحية للبنان. وفي الانقسام الحالي المتناسل من الصراع السني الشيعي، يذهب المتخاصمون للتلطي خلف درع مسيحي يطهره من ذنب “الزنى” مع ما يُبث من خارج الحدود. وإذا ما اعتبر البعض أنه بات للسنّة مسيحيوهم، وأصبح للشيعة مسيحيوهم، فإن العاقل يلاحظ كم أن المسيحيين يجاهدون للحفاظ على كيانهم بمقاربة الأمر الواقع لا الخضوع له.
لم يعد من الفطنة أن ينأى المسيحيون بنفسهم عن فتن الآخرين ويكتفون بتأملها عن بعد. في أعمال خلوة سيدة الجبل ما يوحي بذلك ويؤسس لمنطق آخر في مقاربة أمر الكيان اللبناني.
المتشائمون يتحدثون عن اندثار للمسيحيين في الشرق، ليس بسبب العنف والحروب والفتن فقط، بل أيضا بسبب تبدل الأحوال وابتعاد القناصل واختلاف أولويات العالم، وربما أيضا لأن هذا الشرق لم يعد يروق في يومياته لمسيحييه، وهم يزحفون كل يوم باتجاه الغرب.
بيد أن ذلك التشاؤم لا يتأسس إلا على سوداوية متسرعة، لا على أسٍّ متين، ذلك أن المسيحيين في هذا الشرق، لا سيما في لبنان، يستمدون قوتهم، وفرادة ما أنجزوه، من عبق هذا الشرق، وبالتالي سيكون تمسكهم بالبيت الأصيل جزءا محوريا من مسيحيتهم.
أهم ما خرج عن خلوة سيدة الجبل هذا العام سؤال “هل نستطيع خوض معركة النهوض بلبنان والدفاع عنه”؟ وكان الجواب بسيطا “نعم!.. بالتأكيد”. وفي ما خرج عن خلوة سيدة الجبل ما يفيد أن تأملا عقلانيا بات ضروريا لتحضير المسيحيين لتوفير الأجوبة الناضجة في حال أتاهم كليمنصو جديد يسألهم: ماذا تريدون؟
نقلأعن :العرب