حسناً فعل مركز الدراسات والبحوث الكويتية في عام 2014 بتقديم طبعة منقحة وموسعة لكتاب «أبناء السندباد» من تأليف الرحالة والصحفي والمصور والبحار الأسترالي «ألن فاليرز Alan Valliers»، والذي قام بترجمته الدكتور نايف خرما (من أوائل المدرسين الفلسطينيين الذين وفدوا إلى الكويت، وتقلب في مناصب تربوية حتى وصل إلى رئاسة قسم اللغة الانجليزية بجامعة الكويت، قبل أن يلتحق بالجامعة الأردنية)، فيما قام بمراجعته الباحث القدير الدكتور يعقوب يوسف الحجي، علما بأن هذا الكتاب صدر لأول مرة عن مطبعة حكومة الكويت في عام 1982.
وأهمية هذا المؤلف، الجميل حقًا، تتجلى في زوايا كثيرة، يمكن إيجازها فيما يلي:
أولاً يؤرخ الكتاب بصورة مفصلة للملاحة والرحلات البحرية القديمة في مياه الخليج وبحر العرب والبحر الأحمر وصولا إلى سواحل شرق أفريقيا في زنجبار وممباسا، متطرقًا إلى أنواع السفن والمواد المستخدمة في بنائها وربابنتها وحمولاتها ووظائف من على متنها وغير ذلك من الأمور ذات الصلة، مع تركيز على الحالة الكويتية بإعتباره سافر على ظهر سفينة كويتية وبصحبة نواخذة وبحارة كويتيين.
ثانيًا الكتاب من تأليف شخصية عاشقة للمغامرات البحرية وخبيرة في شؤون الملاحة والمراكب الشراعية، وبالتالي فإن ما دونه لم يصدر عن شخص جاهل أو ناقل للأخبار، وإنما عن صاحب تجربة ومعاناة ذاتية لأنه امتطى بنفسه مراكب العرب من أهل الخليج وسافر معهم وراقب عاداتهم وشاركهم الطعام والشراب والمخاطر والانفعالات والأحاسيس، مدونًا كل كبيرة وصغيرة ساعة بساعة.
ثالثًا الكتاب فيه نفس قصصي وروائي يشد القارئ ويسحره. فهو مثلاً لا يكتفي برسم لوحات دقيقة عن السفينة والبحارة والنواخذة والطهاة والموسيقى والنهام وغاصة اللؤلؤ، وإنما يتجاوز ذلك إلى الحديث عن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والطبقية بين أفراد طاقم السفينة، وسلوكياتهم الأخلاقية والإنسانية، وسجاياهم الفطرية، بل يتطرق أيضا إلى وصف موانئ الوصول وما كان يلقى فيها، وما كان يحمل منها، وربط الوصف بالصور الفوتوغرافية التي التقطها بكاميرته من نوع «لايكا» الألماني.
رابعًا يعكس الكتاب علاقات وروابط الود والتعاون والتكافل التي كانت تجمع بحارة وغاصة ونواخذة الخليج بضفتيه العربية والفارسية قديما، حيث مظاهر الكرم والإيثار والتعاضد والمشاركة في الموانئ البعيدة عن الأوطان والأهل والعشيرة.
وبطبيعة الحال لايمكن لنا في هذه المساحة المحدودة أن نستعرض كل ما ورد في هذا السفر التاريخي/الاجتماعي الهام، خصوصًا وأن عدد صفحاته يتجاوز الستمائة صفحة. لذا سنقوم بسرد تلك المقتطفات الخاصة بيوميات المؤلف في أعالي البحار، وعلاقته مع البحارة والنواخذة الذين سافر معهم أو إحتك بهم، ناهيك عن مغامراته، ودوافعه، وتساؤلاته، ووصفه للموانئ التي زارها.
على أنه من المفيد، قبل ذلك، أن نتعرف على «ألن فاليرز» الأسترالي الجنسية الذي بدأ رحلته البحرية هذه من ميناء عدن في بداية ديسمبر 1938.
ولد فاليرز في مدينة ملبورن الأسترالية في عام 1903 وتوفي في عام 1982 في مدينة أكسفورد البريطانية. وهو الأبن الثاني ضمن ستة أبناء لعائلة فيكتورية كان ربها «ليون جوزيف فالترز» يعمل سائقا للترام ويقرض الشعر ويدافع عن الطبقة العاملة بسبب إيمانه بالأفكار الإشتراكية. نشأ فالترز على سواحل مدينة ملبورن يراقب دخول وخروج السفن منها وإليها، فكان لذلك تأثير عليه لجهة عشق البحر والسفن الشراعية منذ نعومة أظفاره. ونجد التجليات الأولى لذلك في إلتحاقه بكلية لدراسة الملاحة على إثر تخرجه من الثانوية في عام 1919، ثم ركوبه البحر وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة، وبالتالي إطلاعه على شؤون الملاحة وقيادة السفن في وقت مبكر من حياته، بدليل أنه تولى آنذاك قيادة بعض السفن في مشاهد سينمائية، كما قاد بعض السفن التجارية المبحرة ما بين بلاده وجارتها نيوزيلنده.
في عام 1922 تعرض لحادث أثناء قيادته لإحدى السفن فجرح، الأمر الذي أبعده عن البحر مؤقتًا، ودفعه لتعلم الألة الكاتبة والاختزال في إحدى مدارس إدارة الأعمال ومن ثم البحث عن وظيفة صحفي لدى صحيفة «هوبرت ميركوري» في جزيرة تاسمانيا بجنوب أستراليا. وتمر الأيام، ويشفى فاليرز من جروحه ويعاوده الحنين لركوب البحر، فيقوم في عام 1932 بشراء سفينة شراعية قديمة (صنعت في عام 1882) من الدانمارك ليبحر بها حول العالم مع مجموعة من الشباب بهدف تعليمهم الملاحة وأساليب قيادة السفن الغربية. وقد لخص الرجل هذه التجربة المثيرة، التي استغرقت مدة سنتين، في واحد من كتبه الأربع والأربعين، نشره في عام 1934 تحت عنوان «رحلة السفينة كونراد».
بعد هذه الرحلة تخلص فاليرز من سفينته «جوزيف كونراد» ببيعها إلى «جورج هينتينغتون» الذي حولها إلى متحف بحري في ولاية كونيكتيكت الأمريكية لتعريف الناشئة بتاريخ الملاحة، وابتعد لمدة أربع سنوات عن كل ما يتعلق بالبحر إلى أن عاوده الحنين مرة أخرى، فقرر في عام 1938 ركوب البحر مجددًا لكن هذه المرة بصحبة العرب وعلى ظهر سفينة من سفنهم التقليدية، وبغرض الوقوف على الطرق الملاحية التي يستخدمونها في رحلاتهم الموسمية في بحر العرب وغرب المحيط الهندي. ولأنه كان آنذاك عضوًا في «الجمعية الملكية الجغرافية» البريطانية فقد سهلت الأخيرة مهمته وأمدته بكل ما يلزمه للوصول إلى ميناء عدن، معطوفًا على بعض التوصيات لمساعدته على إتمام مهمته الاستكشافية بنجاح.
وهكذا وصل فاليرز إلى عدن في أواخر 1938، وهناك طبقا لكتاب أبناء السندباد (ص 22) لجأ إلى مكتب التاجر الكويتي خالد عبداللطيف الحمد وإخوانه، حيث قدمه التاجر علي الحمد إلى «علي بن ناصر النجدي» نوخذة السفينة الشراعية الكويتية، أو البوم «بيان» الذي كان راسيًا في عدن ومتأهبًا لاستكمال رحلة موسمية بدأت من الكويت إلى شط العرب، ثم مسقط، فعدن، فموانيء الساحل الشرقي لأفريقيا، ثم العودة إلى الكويت.
يقول الدكتور الحجي في مقدمته للترجمة العربية للكتاب (ص 23) أنه تم التعارف بين فاليرز والنوخذة علي النجدي، لكنه لوحظ منذ الوهلة الأولى عدم وجود مودة بين الإثنين لأن النوخذة الكويتي لم يكن محبذًا لوجود قبطان أجنبي غريب على ظهر سفينته، فضلاً عن أنه كان حادًا في طباعه، معتدًا بنفسه، كارهًا لذوي المعتقدات المخالفة لعقيدته. ويضيف الحجي قائلاً في الصفحات (24ـ27) ما معناه أنه لهذه الاسباب تعمد فاليرز إظهار النوخذة بصورة غير مرضية وتصيد هفواته، وتكوين صورة غير حقيقية عن بحارته وسلوكياتهم، وإطلاق بعض التعميمات الجائرة والمتسرعة عليهم.
لكن الحجي يلتمس العذر لفاليرز ويخبرنا عما طرأ من تغيرات حول رؤيته للعرب لاحقًا في الصفحتين 27 و28 فيقول (بتصرف): «لابد من تلمس الأعذار لهذا القبطان الذي كتب لنا هذا الكتاب القيم. فقد كان شابًا حينئذ لم يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، ولو أنه كان أكثر نضجًا، أو أنه قد ركب مع نوخذة أكثر تعقلاً وسعة صدر فلربما كان أكثر موضوعية وصدقًا في حكمه على العرب وسفنهم وقباطنتهم وبحارتهم…ولقد منع قيام الحرب العالمية الثانية فالترز من القيام برحلة مع نوخذة كويتي آخر إلى الساحل الهندي الغربي، وكتابة تفصيلات هذه الرحلة في كتاب آخر». ثم يضيف (بتصرف): «لكن الزمن يتغير ونحن نتغير تبعا له، فالقبطان فاليرز الذي كتب (أبناء السندباد) في عام 1940 ليس هو الكاتب نفسه الذي سعدنا بلقائه في منزله في مدينة أكسفورد البريطانية عام 1979. لقد أتاح الزمن لهذا القبطان المسن حينئذ أن يراجع الأشهر الأربعة التي قضاها مع العرب في سفنهم، وأن يعيد النظر في رحلته التاريخية هذه معهم، فأصبح نتيجة لذلك أكثر إنصافًا وعدلاً في حكمه عليهم وعلى سفنهم وبحارتهم ونواخذتهم». ويختتم الحجي بالقول: «حين زار هذا القبطان الكويت للمرة الثانية عام 1967، وأحسن النوخذة علي النجدي استقباله وكذلك اصدقاؤه من الكويتيين، ترك هذا انطباعًا مختلفًا في نفسه فكتب مقدمة جديدة للطبعة الثانية من كتابه (نشرت في نيويورك في عام 1969) بدا فيها أكثر موضوعية وأصدق حكمًا عما كان عليه من قبل، وأكثر امتنانا وتقديرا لتراث الكويت والعرب الملاحي، وتحسرًا على ضياع هذا التراث الذي قضى عليه اكتشاف البترول في الكويت والخليج».
يقول فالترز في كتابه أنه وضع برنامجًا مدته خمس سنوات للإبحار في المياه الشرقية، بمعنى أن يبدأ الإبحار أولا مع العرب، لعلمه أن العرب «ما زالوا يحتفظون ببعض تفوقهم السابق في الملاحة في المناطق الإستوائية من المحيط الهندي، ذلك التفوق الذي لم يتغير نسبيا لمدة ألفي سنة، والذي ورثوه مباشرة عن الفينيقيين واستمروا فيه بالرغم من اكتشافات فاسكو دي جاما وشق قناة السويس، واستخراج النفط العراقي والإيراني» ثم يبحر مع الهنود، ثم مع الباكستانيين من بحارة شيتا جونج في البنغال الشرقية، فمع بحارة الملايو وسنغافورة وأندونيسيا، إنتهاء بمياه الصين واليابان. ويضيف أن غرضه من ذلك كان عدم الإكتفاء بمشاهدة أنواع السفن، وإنما الأبحار الفعلي على ظهرها لتسجيل كيفية تمويلها وتجهيزها، وإدارة دفتها وصيانتها، وطريقة تحميلها وإفراغها، وأسلوب تسيير الخدمات الضرورية لمن على ظهرها.
أما ما ألح عليه الإقدام على تجربته المثيرة مع العرب فهو عدم توفر معلومات أو مراجع تفصيلية مكتوبة عن الملاحة العربية، لا في العهود الحديثة ولا في العهد القديم، وهو ما يعزيه إلى «كان البحارة العرب من النوع المتكتم لأسباب وجيهة، فقد احتفظوا لأنفسهم بأسرار المهنة التي كانوا قد تعلموها بشق الأنفس حتى أنهم لم يتركوا أثرًا واحدًا يوثق به عن السفينة الفينيقية القديمة. أما الرحالة العربي إبن بطوطة في القرن الرابع عشر فقد كان مهتما بالناس والجغرافيا أكثر من اهتمامه بالسفن والملاحة، وقام بمعظم رحلاته برا، وهذا ينطبق على باقي الرحالة المسلمين المعروفين».
والمعروف أن فاليرز لم ينجز إلا جزءا بسيطا من برنامجه الملاحي في آسيا بسبب إندلاع الحرب العالمية الثانية واستدعائه للخدمة العسكرية ضمن جنود الإحتياط في الأسطول الملكي البريطاني، حيث شارك في معارك نورماندي وغزو صقلية وحملة بورما. ولأنه أبلى بلاء حسنا في المهمات العسكرية التي أوكلت إليه فقد تمت ترقيته إلى رتبة قائد ومنح وشاح الخدمة المتميزة. وبعد انتهاء الحرب استقر في مدينة أكسفورد مع زوجته الثانية نانسي، لكن دون أن ينقطع عن شؤون الملاحة والمراكب الشراعية. إذ حرص على المشاركة في كل سباقاتها ومعارضها ومشاريعها، إلى جانب الكتابة المستمرة عنها في مجلة «ذ ناشيونال جيوغرافيك» خلال عقدي الخمسينات والستينات.
لقد كان متاحًا لفاليرز ان يسافر على ظهر سفينة بخارية مريحة ويجاور ركاب أوروبيين او آسيويين يجيدون لغته ويؤمنون بنفس عقيدته فينسجم معهم مثلما فعل في رحلات بحرية سابقة له مع بحارة من فنلندا والنرويج وألمانيا والبرتغال، لكنه أرادها هذه المرة رحلة تحد وإبحار في المجهول ليثبت أشياء كثيرة منها قدرته الفذة على التأقلم مع مختلف الظروف، والعيش وسط أناس لا يجيد لغتهم وليس بينه وبينهم قواسم مشتركة، واسقاط فكرة أن موانيء الخليج والجزيرة العربية أماكن خطرة لا قيمة لحياة الانسان فيها. ويمكن القول أن ما ساعد الرجل على إنجاز مشروعه الملاحي مع العرب هو شغفه بالبحر وخبرته الملاحية المتراكمة التي سبق أن تطرقنا إليها، ووجود مسئولين بريطانيين في المنطقة، في صورة معتمدين سياسيين او مستشارين أو ضباط سابقين، يمكنه الاعتماد عليهم عند حدوث إشكالات، وسعيه الدؤوب إلى تعلم العربية كي يتواصل بصورة أقوى مع رفاقه العرب في مجاهل البحر، ويتعرف على ثقافتهم وأفكارهم. هذا ناهيك عن الإتصالات المسبقة التي قام بها صديقه أمير البحر المتقاعد من الاسطول الملكي البريطاني ورئيس الجمعية الجغرافية الملكية سير «ويليام جودنف William Goodenough» لتسهيل مغامرته. فقد سهل له مقابلة المستشار البريطاني لسلطان الدولة القعيطية الحضرمية في المكلا، كما منحه توصيات مكتوبة باللغة العربية إلى الحاكم البريطاني في عدن، وإلى المقيم البريطاني في مسقط، وإلى عدد من الأمراء والسلاطين والشيوخ في موانيء الخليج والبحر الأحمر، إضافة لتوسطه لدى سفير المملكة العربية السعودية في لندن الشيخ حافظ وهبة من أجل أن يكتب فقرة أو فقرتين باللغة العربية في جواز سفره كنوع من تسهيل مهمته. وفي هذا السياق يقول فالترز (بتصرف): «لقد كانت جميع هذه المستندات ضرورية جدا، وقد ثبت لي أنها رسائل لا تقدر بثمن لإقامة الاتصالات التي احتجت إليها فيما بعد. وعلى الرغم من ذلك فقد حدث أن وصلت مرة إلى جيزان عندما كان الأمير نائمًا ولم يجرؤ أحد على إيقاظه، فكانت النتيجة أنني وجدت نفسي في السجن لفترة مؤقتة مع عدد من المجرمين المقيدين بالأصفاد. وفي مناسبة أخرى كان سلطان الشحر مهتمًا جدًا بأمر سلامتي وصحتي، خلال تواجدي في بلاده في المدة التي كان فيها مركبي راسيا في مياهه، لدرجة انه تحفظ علي في قصره الضخم المحاط بحراسة شديدة.
ويعزي فالترز تعاون عائلة الحمد الكويتية معه في عدن أيضا إلى مساعدة السير ويليام الذي كتب لهم عنه، علمًا بأن عائلة الحمد كانت تتكون من خالد ويوسف وأحمد وعلي وعبدالله أبناء عبداللطيف الحمد، وكان مركز تجارتهم هو الكويت مع فرع في عدن يديره علي وعبدالله الحمد، وفروع أخرى تحت إدارة بقية الإخوة في العراق والهند وإيران وعسير والحجاز، مع نشاط تجاري يمتد من جدة، وهي ميناء مكة، إلى بربرة في الصومال البريطاني آنذاك، ومن أديس أبابا في داخل الحبشة إلى المكلا والشحر في حضرموت «وصولا إلى كل ميناء صغير او كبير على جانبي البحر الحمر».
لكن كيف استقبلته عائلة الحمد وتصرفت معه في بداية الأمر؟ الإجابة نجدها في الصفحات (39ـ42). ففي موقف من التاجر علي عبداللطيف الحمد الذي بدا وكأنه يحاول اختبار بأس فالترز وقوة تحمله أولا قبل أن يضعه على المركب المناسب ويوكل أمره إلى أحد النواخذة المعروفين. أمره أن يعمل على سمبوك يدعى «الشيخ منصور»، متجها بحمولة بضائع من ميناء المعلا إلى ميناء جيزان تحت قيادة نوخذه يمني نحيف قوي البنية ومساعد «وحشي المظهر» وأربعة بحارة عجائز «وتركيا عجوز أشيب من بقايا الحرب العالمية الثانية».
يقول فالترز في وصفه لـ «الشيخ منصور» ما معناه أنه كان يبدو من بعيد مركبًا صغيرًا رشيقًا ذا منظر بديع، لكنه في الحقيقة كان واحدا من أسوأ المراكب حيث كانت رائحته نتنة، والمياه تنفذ إلى داخله من كل الجوانب. هذا عن المركب، أما عن الرحلة فيصفها بالاعتيادية ويقول (بتصرف): «كنا نسير بالقرب من الشاطئ، ونتاجر بالسلع التي نحملها، ونرسو ليلا بحماية الصخور المرجانية او الجزر الرملية، ونسترشد بخبرة النوخذه اليمني لطيف المعشر.. وكان الطقس جيدا والرياح مواتية والبحر خفيف الموج، وكان غذاؤنا يتألف من السمك وشيء من الأرز والخبز المعد بواسطة وقود من الأخشاب وحشائش البحر المجففة وروث الجمال وغيرها.. وكنا نغتسل بمياه البحر، وكان الجميع في منتهى النظافة، يتوضأون ويؤدون الصلاة وينظفون أسنانهم بالسواك ويحرصون على غسل أواني الأكل المصنوعة من الخيزران أو عظام الأسماك.. كانت الليالي باردة والأيام طويلة وحارة، وكنت أقاسي من الزحار (الدوسنطاريا)، لكني تعلمت أن أحترم النوخذة وبحارته».
بعد عدة اسابيع من تلك الرحلة عاد فالترز الى عدن قادما من جدة وقد ذبل عوده وانهكت قواه ولفحت الشمس وجهه ليقابل التاجر علي الحمد الذي سأله عما إذا كانت رحلته إلى جيزان ممتعة، فكان رده بالإيجاب، وهو ما أعطى انطباعا للحمد أن الأسترالي قد مر بعدد من التجارب وليست تجربة واحدة. حينذاك فقط قال له الحمد (بتصرف): «حسنًا، الكويتيون مستعدون الآن، وسأعمل الترتيبات لك لتقوم بالرحلة الأفريقية على متن بوم يقوده واحد من أفضل نواخذة الكويت هو علي بن ناصر النجدي الذي يمكنك أن تبقى معه ستة أشهر حتى وصولك إلى الكويت لتقوم بعدها برحلتك إلى الهند إن أردت».
وكان فالترز قبل تجربته في سنبوك «الشيخ منصور» المتواضع، قد رأى في ميناء عدن عددًا من مراكب البوم الكبيرة ذات الصواري العالية المدهونة جيدا بالزيت وهي ترفع الأعلام الكويتية الحمراء، ويتجول فيها بحارة يرتدون الثياب والغتر النظيفة، فيما النواخذة يجلسون بهيبة مع مساعديهم في مؤخرة المراكب بين قرع الطبول وأصوات الغناء، فتمنى أن تتاح له الفرصة للإبحار على واحد منها ليستعيد صور أيام الملاحة القديمة التي قرأ عنها في الكتب. وها هي أمنيته على وشك التحقق، فماذا تخبئ الأيام له يا ترى؟
(يتبع)