إن الأزمة التي أحدثها وجود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) -خاصة بعد إعلانه قيام دولة الخلافة وما يقوم به من أعمال وممارسات خاطئة باسم الإسلام ضد المعارضين والمخالفين والأقليات الدينية والمذهبية- أصبحت تشكل تهديدا جديا للأمن والسلم في عموم المنطقة، وفي الوقت نفسه أعطت مبررات كافية لتدخلات إقليمية ودولية خطيرة جعلت المنطقة ساحة لصراعات مدمرة.
من جانب آخر، فإن ما يقدمه داعش حول نموذج الحكم الإسلامي باسم دولة الخلافة في هذا العصر وبالاستناد إلى فهم غير صحيح لبعض النصوص والروايات والفتاوى بات يشكل تحديا حقيقيا للتيار الإسلامي المعتدل، نظرا لما يثيره من شكوك حول صلاحية المشروع السياسي الإسلامي الذي تنادي به الحركات الإسلامية المعاصرة منذ عقود من الزمن من أن الإسلام هو الحل، وأن الشعوب في ظل الحكم الإسلامي سوف تعيش في أمان وحرية وعدالة ورفاهية.
أكثر من ذلك فإن ممارسات داعش ودولته أصبحت تثير لدى البعض تساؤلات وشكوكا حول حقيقة وسطية دعوة الإسلام وتسامحها وروح التعايش التي تعامل بها المسلمون عبر التاريخ -خاصة في عصورهم الزاهرة- مع مختلف أصحاب الأديان والمذاهب في إطار المجتمع الإسلامي الكبير.
غير أن ما يقوم به داعش وغيره من المنظمات والجماعات الإسلامية المتطرفة -من باكستان إلى الشام والعراق ووصولا إلى نيجيريا من ممارسات خاطئة تدمر البلاد والعباد- يستند في كثير منه إلى تفسيرات غير صحيحة وغير منطقية لبعض آيات الجهاد، إضافة إلى بعض الأحاديث والروايات والأحداث التاريخية، كذلك فتاوى بعض الفقهاء قديما وحديثا.
من هنا، فإن دراسة الأسباب الذاتية والموضوعية لظاهرة التطرف الإسلامي بصورة عامة وداعش بصورة خاصة تعتبر من الواجبات الملحة بالنسبة للباحثين والمفكرين الإسلاميين بهدف إبراز جوانب المسؤولية التي تواجه التيار الإسلامي المعتدل إزاء هذا التحدي وما يمثله من تهديد وشكوك حول وسطية الإسلام وتسامح دعوته وصلاحية المشروع السياسي الإسلامي المعاصر ودوره المرتقب في عملية الإصلاح السياسي والاجتماعي.
وفي هذا المجال لا يمكن الاعتماد على المؤسسات الدينية التقليدية لأن مواقفها مع الأسف عادة ما تكون تابعة للموقف السياسي الرسمي للأنظمة الحاكمة سلبا وإيجابا.
ونحن في هذا المقال لا نقف كثيرا على الأسباب الموضوعية والأجواء السياسية الفاسدة التي أدت إلى تفاقم هذه الظاهرة الخطيرة، بل نحاول أن نركز على الأسباب والعوامل الذاتية انسجاما مع المنهج القرآني الذي يقدم دائما الأسباب الذاتية على الأسباب الموضوعية، خلافا للعقل الإسلامي عموما والعربي خصوصا الذي يتعامل مع الأحداث والأزمات بالعقلية التآمرية، محاولا إبعاد اللوم عن نفسه هروبا من تحمل أعباء المسؤولية.
غير أن القرآن الكريم -في معالجته أسباب الهزائم والانكسارات- دائما يلفت انتباه المسلمين إلى ضرورة البحث عن الأسباب الذاتية قبل غيرها، والمثال على ذلك عندما تعرض المسلمون للهزيمة في معركة أحد بعد انتصارهم الساحق في غزوة بدر تساءل بعض المسلمين عن أسباب تلك الهزيمة خارج أنفسهم، غير أن القرآن الكريم نبههم إلى أن الأسباب الحقيقية تعود إلى أنفسهم قائلا [أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّی هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير] (آل عمران: 165).
واستنادا إلى هذا المنهج القرآني فإن الطريق الصحيح للخروج من الأزمة وتحويل الهزيمة إلى نصر هو إصلاح ما في الأنفس (الأسباب الذاتية) ثم بعد ذلك يفتح الطريق سالكا لتغيير وإصلاح ما بالقوم (الأسباب الموضوعية) مصداقا لقوله تعالى [ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم] (الرعد: 11).
أسباب موضوعية
وليس هناك أدنى شك في أن هناك عدة أسباب وعوامل موضوعية مؤثرة هي التي هيأت الأجواء لنشوء ظاهرة التطرف والتشدد الإسلامي وتطورها وانتشارها في عموم المنطقة العربية والإسلامية، ومن هذه الأسباب:
– البيئة السياسية الفاسدة الناتجة عن الدكتاتورية والاستبداد السياسي للأنظمة الحاكمة، إضافة إلى الاحتلال الأجنبي لبعض البلدان العربية والإسلامية، مع ظاهرة العنف الطائفي وحالة عدم الاستقرار الأمني والاجتماعي في كثير من هذه البلدان.
– اعتماد الحل الأمني واستخدام القوة المفرطة وممارسة سياسة الإقصاء والاستئصال والقمع من قبل الأنظمة الحاكمة ضد المعارضين السياسيين والإسلاميين منهم بصورة خاصة.
– التخلف الحضاري وانعدام الشفافية وغياب العدالة الاجتماعية واستشراء الفساد المالي والإداري التي تؤدي إلى تفاقم حالة الفقر والبطالة المتفشية خاصة في صفوف الشباب.
– مخططات وتدخلات الأجهزة المخابراتية المحلية والإقليمية لاستخدام التطرف الإسلامي في إذكاء الصراعات السياسية، خاصة ضد التيار الإسلامي المعتدل.
– سياسة الكيل بمكيالين والمواقف الانتهازية التي تمارسها الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة ومساندتها الأنظمة الاستبدادية في البلدان العربية والإسلامية.
– عدم نجاح ثورات الربيع العربي السلمية ضد الدكتاتورية وقمع وإقصاء التيار الإسلامي المعتدل على إثرها خاصة في مصر، مما أعطى مبررات متضافرة لتقوية ظاهرة التطرف والعنف الإسلامي وعودتها إلى الصدارة من جديد.
الأسباب الذاتية
المقصود بالأسباب الذاتية هي تلك التي تتعلق بكيفية فهمنا الإسلام وقراءتنا التاريخ والتراث الفكري والفقهي خاصة في قسمه السياسي، مع كيفية عرضه والدعوة إليه والتطبيق العملي لكثير من الأحكام والفتاوى الفقهية القديمة منها والحديثة من قبل الجماعات الإسلامية بصورة عامة وبالأخص تلك الجماعات التي تنتمي إلى السلفية الجهادية والتي تشكل بمجموعها مبررات شرعية وواقعية في نظر بعض الإسلاميين لممارسة العنف واستخدام القوة باسم الإسلام وبكيفيات مختلفة تتجاوز كل الحدود والقيود، ويمكننا إجمال أهم تلك الأسباب في النقاط التالية:
1- طبيعة الخطاب الإسلامي الذي يغلب عليه بصورة عامة الجانب العاطفي والمثالي المستند إلى نظرة أحادية وتقليدية للفقه والتاريخ الإسلامي والذي ينظر إليها من قبل الكثيرين كجزء لا يتجزأ من الدين، إضافة إلى كثير من الفتاوى غير المسؤولة الداعية إلى التشدد في الدين وتركز على تهييج روح الكراهية والتطرف في التعامل مع الآخر المخالف.
هذا النوع من الخطاب يمكن اعتباره أحد الأسباب المؤثرة في تغذية روح التشدد في الدين وبالتالي اللجوء إلى استخدام العنف وممارسة “الإرهاب” والذي بدوره يؤدي إلى إيجاد حالة عدم الاستقرار السائدة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة.
2- سبب آخر لظاهرة التشدد والإرهاب باسم الإسلام يعود إلى سوء ممارسة أحكام الجهاد والتي هي في حقيقتها من اختصاص الدولة والسلطة السياسية الشرعية، لكن الأمر اختلط على كثير من الجماعات الإسلامية والجهادية منها بصورة خاصة، ناسين أو متناسين أن هذا العصر يختلف كثيرا عن العصور السابقة خاصة في كيفية استخدام القوة.
وإذا أراد المسلمون في هذا العصر نشر الإسلام والدعوة إليه فليسوا بحاجة لاستخدام القوة والأساليب القديمة، بل بإمكانهم استخدام أساليب الدعوة بالحسنى وأدوات القوة الناعمة، لكن عليهم أولا أن يصلحوا أحوال بلدانهم ويصلوا إلى المستوى الذي يليق بدينهم وبالعصر الذي يعيشون فيه.
3- سبب آخر لتصاعد ظاهرة التطرف الإسلامي يعود إلى عدم وجود نماذج ناجحة للحكم من قبل الإسلاميين، أو بتعبير آخر فشل التجارب الإسلامية المعاصرة في مجال الحكم عدا تجربتي ماليزيا وتركيا، وهما غير محسوبتين على التيار الإسلامي بصورة مباشرة، وجميع التجارب الإسلامية المعاصرة من طالبان أفغانستان إلى السودان لم تنجح في بناء نظام سياسي يقدم نموذجا للحكم الرشيد قادر على تأمين العدالة والحريات العامة والرفاهية والتقدم لشعوبها.
4- سبب آخر يعود إلى ما أصاب الحركات الإسلامية المعتدلة من جمود وتراجع سواء في مجال الدعوة أو في المجال السياسي مع عدم وجود برنامج واضح وجريء لديها للتجديد وإجراء تغييرات ضرورية في أساليبها التقليدية لكي يكون بإمكانها مواكبة التطورات الهائلة التي حصلت وتحصل باستمرار في جميع مناحي الحياة من حولها.
مجالات المسؤولية
في هذه المرحلة الحساسة التي تمر بها الأمة الإسلامية جراء ظاهرة التطرف والعنف باسم الإسلام وآثارها المدمرة على الشعوب والبلاد الإسلامية فإن المسؤولية الملقاة على العلماء والمفكرين الإسلاميين وبالأخص قادة التيار الإسلامي المعتدل باتت كبيرة وملحة في آن واحد لكي يقوموا بإصلاح ما يمكن إصلاحه، لأن التيار الإسلامي المعتدل هو المستهدف أساسا، وهو المتضرر الأكبر من هذه الأوضاع المزرية التي حلت بالمنطقة بسبب تدخلات القوى الإقليمية والدولية بحجة محاربة التطرف والإرهاب.
ولا يمكن التخلص من المسؤولية بمجرد إصدار بيانات ومواقف بالتنديد والقول إن المتشددين ليسوا بمسلمين أو أن ما يقومون به لا يمت بصلة إلى الإسلام، ولا يمكن حل هذه المشكلة المعقدة بهذه البساطة، بل يحتاج الأمر إلى تحمل المسؤولية الشرعية والواقعية.
وإليكم أهم المجالات التي نرى أنها من مسؤوليات التيار الإسلامي المعتدل إزاء هذا التحدي الخطير:
أولا: إصلاح وتجديد الخطاب الإسلامي والدعوي بصورة عامة والتركيز على وسطية الإسلام، وذلك بإعادة التوازن بين النقل والعقل وتطهير الثقافة الإسلامية المعاصرة من الأفكار والمواضيع التي لا تنسجم مع حقيقة الوسطية الإسلامية وروح العصر وحاجة المجتمعات الإسلامية المعاصرة.
مع التركيز أيضا على الجانب السلمي والتسامح والتعايش وقبول الآخر الديني والمذهبي وغيرها من الجوانب المشرقة للإسلام وشريعته طوال التاريخ، والعمل على إبعاد التوجهات الشاذة والفتاوى المتشددة التي تغذي التطرف والعنف وتزرع بذور الحقد والكراهية والتفرقة بين مختلف طوائف الأمة.
ثانيا: تطهير التراث الإسلامي الفكري والفقهي من رواسب عهود الانحطاط والجمود ورفض القراءة التقليدية للتاريخ الإسلامي خاصة في جانبيه السياسي والعسكري، ومن القراءة غير الصحيحة التي تعتبر التاريخ والتراث جزءا من الدين.
ويجب تقسيم التراث الإسلامي بصورة عامة إلى ثلاثة أقسام على حد قول د. أحمد الريسوني: قسم مفيد لزمانه ومفيد لزماننا، وقسم مفيد لزمانه غير مفيد لزماننا، وقسم آخر غير مفيد لزمانه وغير مفيد لزماننا.
من جانب آخر، فإن نقل الماضي إلى الحاضر وفرض هيمنة الأموات على الأحياء هما شكل من أشكال التقليد الأعمى الذي لا ينسجم مع مفهومي الاجتهاد والتجديد اللذين يكمن فيهما سر خلود الإسلام وشريعته وصلاحيتها لكل زمان ومكان، إذ إن لكل عصر قضاياه ومشاكله وحلوله الخاصة به.
ثالثا: تبني نموذج الدولة المدنية بمرجعية إسلامية كحل وسط بين الدولة الدينية والدولة العلمانية، والتي تقوم على مبدأ المشاركة الإيجابية والمتوازنة بين الدين والدولة في البلدان الإسلامية، حيث تتوفر في ظلها الديمقراطية والتعددية والحريات العامة.
والدولة الإسلامية الحقيقية يجب أن تكون دولة الرحمة والعدالة وتحقيق مصالح الناس، وهذا هو المقصود الحقيقي والمطلوب من مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية، إذ إن مقاصد الشريعة كلها تدور حول خدمة الإنسان وحفظ مصالحه وتحقيق القسط والعدل بين الناس.
ونموذج دولة الخلافة في التاريخ الإسلامي الذي تنادي به بعض الحركات الإسلامية وترفعه شعارا يمثل تجربة بشرية بحتة وليس جزءا من الدين، أما النموذج الذي تبناه داعش ويمارسه بهذه الصورة الرهيبة والمثيرة للجدل فهو نموذج غير حضاري لا ينسجم مع مقاصد الشريعة في تحقيق العدالة والكرامة والرفاهية لجميع المواطنين.
رابعا: القيام بإصلاح العمل الإسلامي من قبل الحركات الإسلامية بإجراء تغييرات جذرية في أسلوب عملها وهيكليتها الحزبية على أساس الفصل بين مؤسسات الدعوة وغيرها من النشاطات الاجتماعية، وبين الأحزاب السياسية التي تعمل وتتحرك في نطاق اللعبة السياسية والصراع السياسي سواء في موقع المعارضة أو المشاركة في السلطة، وهذا ضروري لحماية الدعوة ورسالتها وإبعادها عن الصراعات الحزبية وتغيرات اللعبة السياسية.
سياسي وأكاديمي كردي عراقي
نقلأعن /أخبار اليوم