بعد هزيمة حرب 1967.. لا بد أنها كانت مهمة ترقيع صعبة على هيكل مثلما كانت مستحيلة على غوبلز مع وصول طلائع قوات الحلفاء على مشارف برلين واقتراب هزيمة الألمان. مع هذا، رأينا كيف حاول هيكل إنقاذ ما أمكنه إنقاذه، ففي الوقت الذي كان يحشد الاتحاد الاشتراكي الآلاف من كوادره للتجمهر في وسط القاهرة، كان هيكل يدير مسرحية استقالة عبد الناصر، وكيف أن الشعب أصر على بقائه. ثم لاحقًا، علق إعلام هيكل مسؤولية الهزيمة على مشجب الوزير عبد الحكيم عامر، الذي «ينتحر» بعد قليل في زنزانته. ويشن هيكل حملة تنظيف لصورة رئيسه مما لحق بها بالترويج لحكايات عن مؤامرات داخلية وخارجية.
وبالفعل، نجح هيكل مؤقتًا في ترميم سمعة الزعيم إلا أن الزعيم نفسه كان قد غير «الأجندة»، وصار الفارق بين الحقيقة والدعاية يتسع حتى لم يعد ممكنًا لهيكل أن يسوّق صورة «البطل الاشتراكي القومي العروبي المؤمن بالقوة» والرئيس في نفس الوقت يظهر على أخبار المساء مع أميركيين و«رجعيين». «البروباغنديست» يحتاج إلى شيء من الحقيقة، وشيء من الانتصار، كما كان الأمر عليه في حرب السويس عام 1956. من دونهما حبل الدعاية قصير.
مات عبد الناصر وظل «البروباغنديست» وفيًا له خلال الأربعين عامًا التي عاشها بعده. وتأكد لاحقًا أن هيكل لم يتم تعويضه في مصر كمهندس للإعلام الدعائي. خليفتا عبد الناصر، الرئيسان السادات ومبارك، قدما إنجازات كبيرة لكن أدواتهما الدعائية كانت ضعيفة، فالسادات انتصر على إسرائيل لكنه هزم أمام دعاية البعث واليسار في بغداد ودمشق وبيروت! ومبارك أسقطته الدعاية المحلية وحدها. وكما روى الأستاذ أحمد مسلماني في سلسلته عن هيكل أنه تقرب من السادات ومبارك ولم يصلح الحال، ولاحقًا مع مرسي ثم السيسي، فكبرياء هيكل فاقت ما منحه هؤلاء.
أعتقد أن أزمة الأستاذ هي مع نفسه، إذ لم يستطع النزول من على الشجرة منذ وفاة عبد الناصر، بصفته قائدًا إعلاميًا وشريكًا سياسيًا. ولا شك أنه كان شخصية مهمة إلا أن العالم أكبر من أن يملأه فرد أو جماعة واحدة، والتاريخ مثل القطار يتسع للكثيرين ولا يقف في محطة واحدة.
قلت لم ينزل من الشجرة، أعني أنه بسبب اعتزازه بنفسه وتاريخه لم يخرج من الصندوق الذي بناه هو لعبد الناصر وجيله وحقبته. مرة اتصل بي هيكل في لندن، واستضافني على قهوة في فندق «كلاريدجز»، سبب اللقاء رغبته في أن أساعده على ترتيب مقابلة مع الأمير عبد الله بن عبد العزيز، رحمه الله، ولي العهد السعودي حينها. أوضحت له أنني لم أستطع، وكنت أعرف أيضًا عن سوء علاقة هيكل بالرئيس مبارك، التي لا بد أنها سبب امتناع المسؤولين السعوديين عن مقابلته حتى لا تعطي إشارة خاطئة لمبارك. على أية حال، ردًا على القهوة دعوته إلى العشاء مع الصديق المشترك مصطفى ناصر.
وفي «سانت لورانزو» صدفة قابلت هناك زميل العمل القديم عبد الباري عطوان الذي جاء لعشاء آخر. وعندما دخل هيكل المطعم وجدني مع عبد الباري الذي بادأ هيكل بلومه لماذا لا يرد على مكالماته، وها هو الآن في ضيافة «النفطيين»؟! توبيخ مع مداعبة إلا أن هيكل سارع للتبرؤ، زاعمًا أن الدعوة من الصديق مصطفى. لم يقلقني ذلك، فقد كانت كذبة بيضاء والعشاء كان مشتركًا، وحتى أهوّن عليه الحرج قلت له: أنت في عشاء واحد مع نفطي مثلي، لكن عبد الباري يمازحك، وهو نفسه أمضى ثلثي عمره المهني يعمل في مؤسسات نفطية.
والتقيته بعدها مرات قليلة في القاهرة ولندن، حيث تأكد لي أنه مثل جنرال يرفض التقاعد رغم انتهاء الحرب، يعمل كل يوم، له شخصية قوية تأسر مستمعيها، ويملك حيوية مذهلة، في الثمانينات من عمره، وقتها، كما لو أنه شاب في الثلاثينات. وقد التقطه الرئيس السوري بشار الأسد في مطلع محنته مع الثورة، وحاول أن يستخدم هيكل حتى يروّج لحكاية المؤامرة الإسرائيلية على الجيوش العربية الكبرى. هيكل أعاد تدوير حجج الأسد لكنه لم يتحول محاميًا عنه، وانتقل للعمل مع المعسكر الآخر «الجزيرة»، فوجد فيها الاستوديو الدافئ.
يبقى هيكل جزءًا مهمًا من تاريخنا الإعلامي والسياسي، من أمهر مصممي المسرح السياسي، وأبرع راسمي الصور وروائيي تاريخنا، بغض النظر عن الحقيقة.