شكّل الإعلامي اللامع الراحل محمد حسنين هيكل فصلاً مهمًا من تاريخ الصراع الإعلامي والسياسي في مصر والمنطقة. هيكل كان شاهدًا ومشاركًا منذ عهود الملك فاروق، والرئيس عبد الناصر، والرئيس السادات، وكذلك الرئيس مبارك، ومرحلة الثورة المصرية الثانية. وقبل أيام تقاعد من الحياة، رحمه الله، مختتمًا أطول عمر قضاه إعلامي في مهنته. ظل يعمل صحافيًا من الجبهة إلى القصر، فالشارع، وحتى توقف قلبه في التسعينات من عمره. كان مبدعًا في مجاله، وقيمة إعلامية وسياسية دائمة، بغض النظر عن رأي الكثيرين، وأنا واحد منهم، في الكثير مما قاله وكتبه وأنتجه.
وتفسيري للجدل حول الأستاذ هيكل، بين من يقدسه ومن يرجمه، أنه ينبع من انقسام الإعلاميين على أنفسهم، واصطفافاتهم السياسية. من هو في معسكر هيكل يصفق له دون تفكير، ومن هو ضد معسكر هيكل يصفر ضده أيضًا بلا تفكير. وظيفة هيكل كانت إدارة الدعاية الإعلامية لحقبة الرئيس عبد الناصر. وعندما نضع معظم ما قاله وكتبه وحاضر حوله وفق هذه الوظيفة لا نجد صعوبة في فهم هيكل وتقدير عمله، تمامًا مثل غوبلز وزير الدعاية في زمن هتلر، الذي كان أستاذًا بارعًا أجاد في إدارة ماكينة الدعاية النازية، ولا تزال تدرس نظرياته في معاهد الإعلام.
هيكل كان، أيضًا، أستاذًا متميزًا وصحافيًا متفوقًا في الإعلام الدعائي، أي البروباغندا، وحقق كل شهرته ونجاحاته في فترة حكم عبد الناصر لأن الدعاية الإعلامية كانت واحدًا من أهم أسلحته الثلاثة، مع السياسي والعسكري. وكان أداء هيكل، وتفوق جهازه الإعلامي، سببًا مهمًا في شعبية عبد الناصر الذي اتكل على الإعلام كثيرًا. استخدمه في تعزيز شرعيته، وإدارة معاركه الكبيرة، من تأميم القناة إلى التحول إلى المعسكر الاشتراكي، والانخراط في الحملات الإعلامية السوفياتية ضد المعسكر الأميركي، وإسرائيل، ومقارعة الإخوان المسلمين، وتبرير حرب اليمن وخسائرها الهائلة، والخلاف مع الرياض وبغداد ودمشق لاحقًا. لكن أكبر التحديات التي واجهت هيكل وأنهكته، كان تجاوز آثار هزيمة حرب 1967 التي شكلت أيضًا أول هزيمة إعلامية له، حيث لم تفلح معها الأصباغ التجميلية الإعلامية، بتسمية الهزيمة أمام إسرائيل «نكسة»، والانسحاب من اليمن «مصالحة». فبعد عام واحد فقط اندلعت المظاهرات الطلابية ضد عبد الناصر في جامعة القاهرة التي كانت قبل ذلك ساحة للمظاهرات المؤيدة له. ولم تفلح محاولات هيكل الدعائية كثيرًا في إقناع الناس وتفسير استدارة عبد الناصر السياسية، بقبوله مبادرة روجرز، وزير الخارجية الأميركي آنذاك، للتفاوض مع إسرائيل، واشتعلت المخيمات الفلسطينية تتظاهر وتندد.
رأيي، هيكل لم يفشل في إدارة الدعاية في مرحلة عبد الناصر الثانية، أي بعد هزيمة يونيو (حزيران)، بل عبد الناصر هو من فشل في فهم مهمة وظيفة هيكل، الإعلامي الدعائي، «البروباغانديست». فالرئيس الراحل أراد أن يجمع بين متناقضات صارخة بعد الهزيمة؛ أن يحتفظ بالصورة التي رسمها له هيكل، الزعيم القومي العروبي قائد الأمة في مواجهة الإمبريالية والصهيونية، وفي الوقت نفسه كان يتعامل مع واشنطن الإمبريالية، ويقبل بالتفاوض غير المباشر مع العدو إسرائيل، ويتصالح مع معسكر «الرجعية»، أي السعودية، ويقلل من اعتماده على السوفيات بعد أن اكتشف أنهم خذلوه عندما احتاج إلى دعمهم.
وفي تصوري أن هيكل كان بمقدوره أن يعيد رسم شخصية عبد الناصر من جديد، من صورة البطل تشي غيفارا، إلى زعيم الأمة المتسامح غاندي، لكن عبد الناصر لم يشأ أن يحرق صورته الزاهية.
ولا أن هيكل نفسه أدرك متأخرًا الفارق الهائل بين ما كان يطعمه للشعب والحقيقة. ففي الحرب كان يروّج للبيانات العسكرية التي ترسل له لينشرها على صدر الصفحة الأولى لصحيفة «الأهرام»: «إسقاط مائة وثلاثين طائرة للعدو»، في هجوم صباح الخامس من يونيو، ليكتشف هيكل أنه ليس فقط لم يتم إسقاط ولا طائرة إسرائيلية واحدة، بل الأسوأ؛ الحقيقة هي العكس، العدو هو من نجح في تدمير الأسطول الجوي المصري، ومطاراته، واستولى على سيناء التي هي أكبر من فلسطين ثلاث مرات، وربض على ضفة قناة السويس، ولم يعد ممكنًا أن تبحر من خلالها أي سفينة أو ناقلة دون موافقة من تل أبيب!
للمقال بقية…