على مدار السنوات القليلة الماضية شاهدنا عددا من الثورات التي أشعلها «فيسبوك»، بدءا من ثورات الربيع العربي، مرورا باحتلال «وول ستريت»، وميادين إسطنبول إلى كييف وهونغ كونغ، ثورات استمدت وقودها الأساسي من مواقع التواصل الاجتماعي. لكن بمجرد انقشاع الغبار، فشلت كل تلك الثورات في بناء أي كيان سياسي مستدام، وبسبب تعدد الأصوات المرتفعة، أصبح تكوين كيان واحد أمرا مستحيلا.
سؤال: هل اتضح أن مواقع التواصل الاجتماعي نجحت فقط في تحطيم الأشياء لا في بنائها؟
مؤخرا أجاب صوت مهم على هذا السؤال بـ«نعم» كبيرة. هذا الصوت كان وائل غنيم، الموظف المصري في شركة «غوغل» الذي ساعدت صفحته المجهولة على «فيسبوك» في إشعال ثورة ميدان التحرير في بداية عام 2011، التي أطاحت بالرئيس المصري حسني مبارك، بيد أنها فشلت في إنجاب بديل ديمقراطي جديد إثر إطاحته.
في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، نشر غنيم، الذي استقر منذ ذلك الحين في وادي السيليكون بالولايات المتحدة، مقطعا مصورا جديرا بالمشاهدة تحدث فيه عن الأخطاء التي حدثت، ويبدأ المقطع كالتالي: «قلت من قبل إنك لو أردت أن تحرر مجتمعا، فكل ما تحتاجه هو الإنترنت. كنت مخطئا، قلت تلك الكلمات عام 2011. عندما ساعدت صفحة (فيسبوك) المجهولة التي أنشأتها في إشعال الثورة المصرية. فقد كشف الربيع العربي الإمكانيات الهائلة لمواقع التواصل الاجتماعي، بيد أنه أظهر أوجه قصورها الرهيبة أيضا؛ نفس الأداة التي وحدتنا كي نسقط حكامنا المستبدين، هي نفس الأداة التي مزقتنا في النهاية».
حسب غنيم، في بداية عام 2000، تدفق العرب على الإنترنت «متعطشين للمعرفة وللحصول على الفرص وللتواصل مع غيرهم من الناس في مختلف بقاع العالم. هربنا من واقعنا السياسي المحبط لنعيش حياة افتراضية بديلة».
أضاف غنيم، بعد ذلك في عام 2010: «غيّر الإنترنت حياتي للأبد، فعندما كنت أتصفح (فيسبوك) رأيت صورة لجثة شاب مصري اسمه خالد سعيد وبها آثار تعذيب. كان خالد يبلغ من العمر 29 عاما، من مدينة الإسكندرية، رأيت نفسي مكانه، وقمت بإنشاء صفحة على (فيسبوك) وسميتها (كلنا خالد سعيد)، وخلال ثلاثة أيام انضم للصفحة أكثر من 100 ألف متابع من المصريين الذين شاركوني نفس الهم».
بعدها انطلق غنيم وأصدقاؤه في استخدام «فيسبوك» لحشد الأفكار «وأصبحت أكثر الصفحات تتبعا في العالم العربي.. وكانت مواقع التواصل الاجتماعي مهمة لهذه الحملة، فقد ساعدت على ظهور حركة لا مركزية وجعلت الناس يدركون أنهم لم يكونوا وحدهم، وجعلت تصدي النظام لتلك الحركة أمرا مستحيلا».
ألقي القبض على غنيم، وسُجن في زنزانة معزولا عن الآخرين لأحد عشر يوما. لكن بعد الإفراج عنه بثلاثة أيام نجح ملايين المحتجين ممن حركتهم صفحته على «فسيبوك» في إسقاط نظام مبارك.
لكن يا حسرتاه فقد طارت النشوة، وفق غنيم: «لأننا فشلنا في تكوين إجماع، وساعد الصراع السياسي على خلق حالة من الاستقطاب الحاد». أشار غنيم إلى أن ما فعلته مواقع التواصل الاجتماعي هو أنها «فقط ضخمت» حالة الاستقطاب عن طريق «تسهيل نشر المعلومات المضللة والشائعات وترديد صدى الصوت وأحاديث الكراهية، فقد كان الجو مسموما تماما. أصبح عالمي الافتراضي ساحة معركة مليئة بالغيلان والأكاذيب وأحاديث الكراهية».
استخدم أنصار الجيش والإسلاميون مواقع التواصل الاجتماعي لتشويه صورة بعضهم بعضا، في حين جرى تهميش غنيم وكثيرون غيره. سُرقت ثورتهم من قبل الإخوان المسلمين، لكن الجيش أفشل هذا، ثم ألقي القبض على غنيم مجددا.
«كانت لحظة هزيمة»، وفق غنيم، مضيفا: «التزمت الصمت لأكثر من عامين، واستعنت بالوقت كي يبين حقيقة كل ما جرى».
اختتم غنيم كلامه عن حال مواقع التواصل الاجتماعي اليوم قائلا: «أولا، لا نعرف كيف نتعامل مع الشائعات، انتشرت الشائعات بين ملايين الناس بشكل يعكس حال الميل للانحياز». ثانيا «نعمد إلى التواصل مع من نتفق معهم فقط، وبفضل خصائص مواقع التواصل الاجتماعي، نستطيع أن نُصمت، ونمنع ونحجب الآخرين. ثالثا، تتحول النقاشات على الإنترنت سريعا إلى غوغاء، وكأننا ننسى أن الأشخاص الجالسين أمام الشاشات هم أناس عاديون، وليسوا أشخاصا خيالين من صنع الكومبيوتر. رابعا أصبح من الصعب تغيير آرائنا بسبب السرعة، فبسبب العجلة والإيجاز في الكتابة على مواقع التواصل، أصبحنا مجبرين على القفز إلى النتائج وعلى كتابة آراء حادة في مساحة لا تتعدي 140 حرفا عن قضايا دولية معقدة. وبمجرد أن تضع رأيك هناك، يبقى على الإنترنت للأبد».
خامسا، وهي الأهم، قال غنيم «اليوم تشكلت خبراتنا في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث بتنا نفضل بث الخبر علي الدخول في التزامات، كتابة التعليقات على النقاشات، والتعليقات السطحية على النقاشات العميقة، كأننا اتفقنا على أن نتحدث عن بعضنا بدلا من التحدث مع بعضنا البعض».
لم يستسلم غنيم، فقد أنشأ هو وعدد قليل من أصدقائه مؤخرا موقعا جديدا يجرون فيه نقاشات ذكية مهذبة حول موضوعات جدلية، وغالبا ساخنة بهدف تضييق الفجوة، بدلا من توسعتها. منذ خمس سنوات، قال غنيم: «قلت من قبل لو أردت أن تحرر مجتمعا، فكل ما تحتاجه هو الإنترنت، لكن اليوم أعتقد أننا لو أردنا أن نحرر مجتمعا، فأول ما نحتاجه هو أن نحرر الإنترنت».