كم من المثقفين والكتاب كُفروا وقُتلوا بفتاوى ظلامية معادية لحرية الرأي والتعبير والاعتقاد.. كم من المبدعين والمفكرين استبيحت دماؤهم باحكام ومرجعيات سلفية واخوانية وخمينية. في فبراير 1987 قتل الفاشيون المفكر حسين مروة، لان الفاشيين من الاسلام السياسي لم يحتملوا كما يقول محمود امين العالم ان يتركوا مروة ليكمل الجزء الثالث من ملحمته ويواصل ابداعه الفكري ونضاله السياسي فوجهوا رصاص تعصبهم وجهلهم الى رأسه. ولذات الهدف قتل مهدي عامل، والكاتب المستنير فرج فودة وشكري بلعيد وغيرهم ممن تعرض الى التكفير، وعلى رأس القائمة المفكر نصر حامد ابوزيد.
في مواجهة الاسلام السياسي بكل اطيافه لا مجال اطلاقاً للمساومات والحلول الوسط والتنازلات، لان ليس هناك ارهاب افضل من ارهاب، فالارهاب وان اختفلت وتفاوتت درجاته وتعريفاته فانه يظل كما حدد مفهومه الباحث عبدالشافي خالد: كل ممارسة للعنف المادي والجسدي او الرمزي ضد الافراد والجماعات لاجباره بالقوة على تبني فكرة ما او تصرف معين، خارج القوانين المتعاقد عليها التي تحميها الدولة. ان اي ممارسة للعنف بغض النظر عن ممارسة وضحيته تعتبر ترهيبًا بشكل ما.
إن ثقافة العنف مليئة بالكراهية تجاه الاخر، وللارهاب اشكال متعددة لا تقتصر فقط على ارهاب الفكر الديني القائم على رفض الدولة المدنية بدوافع التكفير والرجوع الى الحاكمية وتعاليم الولي الفقيه بل يشمل ارهاب الانظمة، وارهاب المثقف للمثقف والارهاب الفكري والارهاب الدولي والى آخره.
على امتداد البلاد العربية كم من القيود فرضت على التفكير العقلي والبحث العلمي وحرية الرأي والاعتقاد؟
ففي ظل تصاعد حملات التكفير التي يشنها جماعات تيار الاسلام السياسي ضد المفكرين والكتاب والمبدعين والصحفيين تتعرض الشاعرة والكاتبة فاطمة ناعوت في مصر وبحجة ازدراء الاديان الى السجن لمدة ثلاث سنوات!
وعلى خلفية محاكمة ناعوت وإسلام بحيري وجاد يونان اي ثلاثة احكام في شهر يناير في ثلاث قضايا خاصة بازدراء الاديان، جميعها تعني مصادرة لحرية الرأي والتعبير اللتين يحميهما الدستور المصري والمواثيق الدولية.
اصدرت (نقلاً عن موقع البداية الالكتروني) 17 منظمة وحزبًا و84 شخصية عامة بيانًا يطالبون فيه بالغاء مادة ازدراء الاديان.. وطالب الموقعون مجلس النواب باجراء التعديلات التشريعية اللازمة لتفعيل المواد الخاصة بالتزام الدولة بحرية البحث العلمي، وحماية الفكر والتعبير وعلى رأسها الغاء المادة (998) من قانون العقوبات المصري الخاصة بازدراء الاديان التي استخدمت منذ حشرها في قانون العقوبات في التنكيل بالمختلفين دينيًا، والتنكيل بالمفكرين المسلمين خدمة للسلفية المتطرفة التي وصفوها بالـ «متخلفة» كما طالبوا الشعب المصري وقواه الوطنية والديمقراطية بدعم هذه المطالب العادلة، لمواجهة التقييد المتزايد للحريات التي نص عليها الدستور من اجل دعم احترام الدستور وتفعيل مواده.
واكد الموقعون ان حكم ناعوت وما سبقه من احكام يكشف عن توجهات مؤسسات الدولة الحقيقية تجاه حريات الدين والمعتقد والرأي والتعبير، ويؤكد ان الدعوة لتجديد الخطاب الديني لم تتجاوز حتى الان الخطابات الرسمية والاعلامية فقط مما يدعم بشكل مباشر الارهاب الذي يحاربه المجتمع كله، فالارهاب ليس فقط قنابل ومتفجرات، ولكنه افكار ارهابية وممارسات داعمة لها كمحاكمات ازدراء الاديان تخنق كل رأي يكشف جذور الارهاب في تراثنا وافكارنا.
في اطار الحملة التي يشنها الاخوان والسلف الجهادي ضد ناعوت وثقافة التنوير عمومًا كتبت ناعوت مقالاً (الحوار المتمدن تاريخ 2016/2/1) تقول فيه: لست في عرض التعليق على احكام القضاء الذي احترمه مثلما احترم احد ابائي الاجلاء، الفيلسوف الاغريقي سقراط، فقبل حكم الاعدام الذي أقرّه عليه كهنة اثينا وقضاتها حين رموا ابا الفلاسفة بالزندقة والهرطقة والكفر، فآثر المتهم العظيم ان يتجرع كأس السم بيده امام تلامذته، رافضًا الهرب من بلده، لينهي حياته وسط دموع مريديه وهو يقول لهم «عليّ احترام القضاء لأنني احترم اثينا، واحملوا انتم مشاعل التنوير التي اضأناها لكم» وما كان سقراط زنديقًا انما مفكر تنويري اراد لتلامذته ان يعملوا عقولهم لا ان يستعيروا عقول سواهم من الكهان الكذبة ذوي الغرض. كان ذلك في القرن الرابع قبل الميلاد، اي قبل خمسة وعشرين قرنًا من اليوم. كذلك انا، ان تأكد الحكم عليّ بعد الاستئناف، لا سمح الله، بأي عدد من سنوات اقضيها في عتمه السجن، سأنفذها راضية مرضية لعدة اسباب: اولاً لأنني احترم الدولة المصرية ومن ثم احترم قضاءها. وثانيًا لان من يختر درب التنوير عليه ان يقبل دفع فاتورة حرية الرأي مهما تعاظمت، وثالثًا لأن ألف حكم قضائي ضد لن يجعلني أشك لحظة في نصاعة ثوبي وعمار قلبي بحب الله وحب الناس وحب بلادي.
وفي ذات السياق قالت في مقابلة تلفزيونية: فطالما ظل المثقفون في شتاتهم وتصدع جبهتهم، سيظلون عرضة للقنص بنبال التكفيريين صائدي العصافير الذين يستمدون قوتهم من شتاتنا وتفرقنا واخفاقنا في تكوين جبهة تنويرية صلبة لا ثغرات فيها تتلقف سهامهم نحو نحورنا العارية لتقصف اقلامنا التي لا نملك سواها. هم يحملون سيوفًا بتارة لكن اقلامنا النحيلة فيما يبدو أقوى من سيوفهم لهذا لا يتحملون آراءنا فيقدمون فينا البلاغات القضائية بدلاً من مقارعة الحجة بالحجة والرأي بالرأي المضاد. ما أفلسهم! ما افقرهم!
كل هذه المحاكمة لفاطمة ناعوت جرت بتهمة ازدراء الاسلام، في حين انها اصدرت بيانًا توضح فيه «انها احيلت الى محكمة الجنايات بسبب بوست عابر على الفيس بوك تهنئ فيه الامة الاسلامية بأضحية العيد.. وتدعو فيه الى احترام الذبيحة وحُسن ذبحها بدلاً من اهانتها باغراق الارض بدمائها على مرأى من الاطفال الصغار».
وتؤكد الصحافة المصرية المستنيرة ان محاكمة ناعوت حدثت بسبب معارضتها لجماعة الاخوان المسلمين والأمر الآخر لترشحها للانتخابات البرلمانية، وهو ما اصاب الكثيرين بالذعر من دخول امرأة قوية مستنيرة مثل فاطمة ناعوت الى البرلمان.