انتقت مجلة «تايم» خمسة أحداث رجَّحت أن تكون بين التوقعات التي راهنت على وقوعها خلال عام 2016. وبدأت في تسجيل هذه الأحداث بنشر وقائع الصدام السياسي الذي حصل بين السعودية وإيران، عقب تنفيذ حكم الإعدام بـ 47 شخصاً بينهم شيخ شيعي هو نمر باقر النمر.
وكان من نتائج هذا القرار أن قطِعَت العلاقات الديبلوماسية بين طهران والرياض، وتعرضت السفارة السعودية في العاصمة الإيرانية لاعتداء سافر، وكذلك القنصلية في مدينة مشهد.
وبما أن واشنطن كانت تعتبر المملكة العربية السعودية حليفتها التاريخية، التي تؤمّن لها الاستقرار الإقليمي وتوفر لها ولدول اوروبا الطاقة المطلوبة… فإن تحوّل الرئيس باراك اوباما باتجاه ايران أحدث شرخاً عميقاً في تاريخ العلاقات منذ لقاء الملك عبدالعزيز وفرانكلن روزفلت عام 1945.
في قائمة التوقعات، ألقت مجلة «تايم» الضوء على مستقبل الحلف الأطلسي مدّعية أن المنظمة الأمنية، التي استمرت نحو سبعين سنة، تتعرض حالياً للتفكك والتمزق. والسبب أن اهتمام الولايات المتحدة بأوضاع حيلفاتها الأوروبيات قد ضعف في شكل ملفت.
وتؤكد المجلة أن تدخل روسيا في اوكرانيا وسورية كان في طليعة العوامل التي أدت الى التباعد بين الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. كما أدت في الوقت ذاته الى انقسام الدول الأوروبية بالنسبة إلى السلوك السياسي الذي انتهجه الرئيس فلاديمير بوتين. وفي ضوء هذه المتغيرات ركزت واشنطن اهتمامها على العلاقات مع طهران وبكين.
التوقعات الأخرى تعطي الخلافات الأوروبية – الأوروبية مساحة واسعة من التناقض الحاصل بين الدول المنفتحة والدول المنغلقة حول مسألة استيعاب اللاجئين السوريين والأفارقة. والشاهد على ذلك ما حدث بين ألمانيا وهنغاريا من خلاف واسع ربما تدفع المستشارة انغيلا ميركل ثمنه غالياً. وقد رأت المجلة في هذا الخلاف مصدر قلق سوف ينمو خلال عام 2016، بحيث يهدد مناعة المبادىء التي تأسست عليها الوحدة النقدية والقيَم الأوروبية.
الرهان على دور الصين جاء في الدرجة الرابعة بالنسبة إلى منظّري المجلة. وهم مقتنعون بأن بكين ستترك على تاريخ هذه السنة طابعها الاقتصادي المميز. صحيح أن استراتيجيتها الاقتصادية ليست محدَّدة المعالم كما في الدول الغربية الصناعية… ولكن الصحيح أيضاً أن أسواق الأسهم في نيويورك ولندن وطوكيو ستظل تتأثر بتفاعلاتها، سلباً أم إيجاباً.
من الأخطاء التكتيكية التي ارتكبها الرئيس الأميركي باراك أوباما إعلانه بأن عام 2016 سيشهد نهاية تنظيم «داعش». وترى مجلة «تايم» في هذا الإعلان استفزازاً لقيادة التنظيم، الأمر الذي فرض على «الخليفة» أبو بكر البغدادي توسيع دائرة نشاطاته الإرهابية بحيث وصل الى ماليزيا والصومال وإندونيسيا.
ومع أن البغدادي اضطر إلى إحكام قبضته على محافظات العراق وريف حلب، إلا أن انضواء «بوكو حرام» تحت قيادته جعل تنظيمه عالمياً بامتياز. ولكن هذا لا يمنعه من استهداف دول معينة مثل فرنسا وروسيا وتركيا والسعودية والولايات المتحدة، إضافة إلى العراق ولبنان.
تقول الصحف الفرنسية إن الدول الأوروبية المشاركة في ضرب «داعش»، مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا، لا تملك رؤية موحدة بالنسبة إلى إستراتيجية القضاء على هذا التنظيم الإرهابي الخطِر. كل هذا بسبب دعم تركيا ميليشيات سنيّة في شمال العراق، أو بسبب الموقف الروسي المؤازر لجيش بشار الأسد… والذي يقاتل «داعش» على الجبهة ذاتها. ومعنى هذا أن التنسيق يكاد يكون معدوماً، عكس حرب الخليج عام 1991، أو التدخل المتعدِّد الجنسية في أفغانستان عام 2001. واللافت أن حدود «داعش» كانت مقتصرة على العراق وبلاد الشام، واليوم ينتشر أتباع هذا التنظيم في أربع قارات.
التطور الخامس والأخير، الذي تراه المجلة حافزاً لاستئناف الخلاف السعودي – الإيراني، يتمثل في الانحياز السافر الذي أظهرته الولايات المتحدة تجاه بلد كانت تصفه بـ «محور الشر» بينما هو يعتبرها «الشيطان الأكبر». هذا مع العلم أن ايران لم تبدل في سياستها الخارجية، خصوصاً لناحية التدخل في شؤون الدول الأخرى، مثل لبنان والعراق وسورية واليمن وفلسطين. وعليه ترى دول مجلس التعاون الخليجي أن المكافأة التي حصلت عليها ايران تتجاوز الالتزام بتعهداتها بتقليص برنامجها النووي تنفيذاً لاتفاق 14 تموز (يوليو) 2015.
ولكن، هل قبلت إيران بإلغاء برنامجها النووي لمدة عشر سنوات فقط، أم أنها ستكون في حلّ من تعهداتها بعد مرور هذه المدة… وبعد استردادها أكثر من مئة بليون دولار، هي حصيلة رفع العقوبات الاقتصادية الدولية؟
زعماء الحزب الجمهوري في الكونغرس يتهمون الرئيس اوباما بأنه هو المسؤول عن النقلة النوعية التي قوّضت سبعين سنة من العلاقات المتينة مع السعودية، في مقابل حصوله على تعهّد لا يخدم سوى إسرائيل.
ومثل هذا التحوّل المفاجىء يستدعي بالضرورة اكتشاف نقطة الانكفاء. خصوصاً بعدما راهن أوباما، في مطلع ولايته الأولى، على صداقة العالم الإسلامي (السنّي) من خلال مناسبتَيْن أقيمتا في جامعة القاهرة والبرلمان التركي. وكان واضحاً أنه اختار المناسبتين للتحدث عن علاقة بلاده الوثيقة بالعالم الإسلامي.
يُجمع المراقبون في واشنطن على القول إن الكاتب والباحث فريد زكريا هو الذي أقنع باراك أوباما بأهمية الانحياز إلى إيران. ولقد كتب في مجلة «تايم» مقالة حذّر فيها من دعم «الوهابية» التي أخرجت أسامة بن لادن، مصمّم اعتداءات 11 سبتمبر ضد الشعب الأميركي. وقال إنه نصح أوباما بضرورة الانفتاح على إيران، الدولة المعزولة والمحاصَرة. وتوقع في تحليله أن تلعب دوراً رائداً مثلما فعلت الصين الشعبية إثر الزيارة التي قام بها لبكين الرئيس ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر.
ويرى عدد من المحللين أن هذه المقارنة غير صحيحة بسبب ارتباط «الجمهورية الإسلامية» بنهج الثورة التي أطلقها الخميني، والتي يحافظ على إيقاعها السياسي وكيله المرشد الأعلى علي خامنئي. خصوصاً أن حرارة الاندفاع التي استقبل بها الرئيس أوباما انفتاح إيران جعلته يتغاضى عن تدخّلها المتواصل في شؤون جيرانها، تماماً مثلما تغاضى عن تهديدها الملاحة في مياه الخليج. ومعنى هذا أن مردود زيادة إنتاجها النفطي (نصف مليون برميل يومياً) سيُصرَف على خدمة مصالحها، مثلما تصرف المئة مليون المجمّدة على المنظمات المرتبطة بها في العراق وسورية ولبنان واليمن والبحرين وفلسطين.
آخر الأسبوع الماضي احتفل وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بمناسبة تدشين مرحلة التطبيع فكتب مقالة في جريدة «نيويورك تايمز» عبَّر فيها عن تفاؤله بالمرحلة المقبلة. ووعد الرأي العام بأن تصبح بلاده شريكاً للدول الغربية في منازلة السنّة المتشدّدين الذين اتهم السعودية بتشجيعهم. ويبدو أن نشوة الانتصار الذي حققه في المفاوضات، بدعم غير محدود من الرئيس حسن روحاني، كانت الدافع لتدبيج عبارات يصعب ترجمتها إلى واقع إلا في حال تنازلت إيران عن دورها السابق.
وحقيقة الأمر أن الرئيس روحاني لعب دوراً سياسياً مؤثراً في إقناع خامنئي بضرورة تغيير مواقفه المتصلبة. ونصحه بأهمية انفتاح إيران على الخارج بهدف امتصاص التململ الداخلي الذي يعانيه الشبان نتيجة العقوبات. وأعرب له عن مخاوفه من انفجار ثورة ثانية تأكل الأخضر واليابس، تماماً مثلما فعلت ثورة «الربيع العربي» في الأنظمة المترهلة.
والثابت أن الرئيس أوباما بلغه ما يقوم به نظيره الإيراني بدليل أنه اتصل به هاتفياً في أيلول (سبتمبر) ورحّب به في نيويورك. واعتُبِرَت تلك البادرة مدخلاً لفتح حوار بعد قطيعة استمرت ثلاثين سنة.
وبما أن الفاتيكان يُعتبر الصرح الديني العالمي الممثل لأكثر من بليون ومئتي مليون نسمة، فإن زيارة الرئيس روحاني هذا الأسبوع للبابا هي تكملة لمواصلة سياسة الانفتاح على الأنظمة والديانات الأخرى.
وقد استغل اللبنانيون هذه الزيارة، إضافة إلى زيارة البطريرك الماروني بشارة الراعي، ليؤكدوا أن الجلسة النيابية المقررة في 8 شباط (فبراير) ستكون حاسمة بالنسبة إلى انتخاب رئيس جمهورية لبنان. والسبب، في نظرهم، أن البابا والراعي وروحاني سيبحثون في الفاتيكان طرق الحل لأزمة رئاسة جمهورية لبنان.
المهم، أن الرياض اختارت يوم الثلثاء الماضي – أي يوم الاحتفالات في إيران – لكي ترسل إلى وكالات الأنباء قائمة طويلة تعدِّد فيها التفجيرات والارتكابات التي افتعلتها إيران بواسطة عملائها، في مختلف مدن السعودية. وذكّرت في هذا السياق أيضاً أن سلسلة التجاوزات والانتهاكات الأمنية لم تتوقف منذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979.
ورأى المعلقون في توقيت إعلان هذه السوابق رسالة سياسية موجهة الى الرئيس باراك اوباما، بهدف إبلاغه أن رفع العقوبات عن ايران سيزيد من تطرفها وتوسيع دائرة نشاطاتها المعادية للمجتمعات الإسلامية السنيّة. كل هذا لأن طهران تعتبر نفسها مسؤولة عن حماية الشيعة في العالم.
في بداية «الربيع العربي» حاولت إيران تأجيج الوضع في البحرين ولا سيما لدى الغالبية الشيعية. وسارعت السعودية الى إرسال قوة عسكرية لتأمين حماية النظام. كذلك استغلت ايران حرب اليمن لمساعدة الحوثيين على تحقيق بعض الانتصارات بهدف تهديد الحدود الجنوبية للمملكة. ومثل هذا الوضع المقلق قد يزيد الشرخ السنّي – الشيعي اتساعاً. لذلك تدخّل المرشد علي خامنئي ليصف الهجوم على السفارة السعودية في طهران بأنه «عمل سيء جداً… ومشين».
ويرى رئيس وزراء باكستان نواز شريف في كلمة خامنئي مدخلاً لمحاولة وقف التصعيد ومنع تدهور العلاقات بين طهران والرياض. وقد استشار الملك سلمان بن عبدالعزيز، في هذا الموضوع، أثناء وجوده في الرياض هذا الأسبوع. ويقال إن العاهل السعودي طالب بإظهار بعض الاعتدال في سياسة إيران الخارجية، قبل فتح الحوار والمصالحة. وهذا ما يحاول أن يتلمسه الرئيس الصيني شين جينبينغ خلال زيارته طهران.
بقي أن نذكر أن العلاقات الأميركية – الإيرانية والعلاقات الإميركية – السعودية قد دخلتا في مرحلة تغيير الصداقات والأدوار. والسبب أن طهران عادت لتفتح علاقات سياسية واقتصادية مع الولايات المتحدة، بعد قطيعة استمرت نحو أربعين سنة. بينما المملكة العربية السعودية تبحث عن بدائل عن الولايات المتحدة، بعد صداقة متينة استمرت أكثر من سبعين سنة. وقد تجد هذه البدائل في الصين وباكستان وروسيا.